الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: العقد الفريد **
أبو بكر بن أبي شَيبة قال: خَرج عليُ بن أبي طالب من الكُوفة إلى معاوية في خمسة وتسعين
ألفاً وخرج مُعاوية من الشام في بضع وثمانين ألفاً فالتقوا بصفِّين. وكان عسكر علي يُسمَى الزَّحزحة لشدة حَركته وعسكرُ معاوية يسمى الخُضْرية لاسوداده بالسلاح والدروع. وأبو الحسن قال: كانت أيامُ صِفّين كلّها موافقَة ولم تكن هَزيمة بين الفريقين إلا على حامية ثم يكرون.
أبو الحسن قال: كان مُنادي على يخرج كل يوم وينادي: أيها الناس لا تُجهزُنّ على جريح ولا تَتبعُنَّ موِلِّياً ولا تَسلبنّ قتيلا ومن ألقى سلاحه فهو آمن. أبو الحسن قال: خرج معاوية إلى عليٍّ يوم صفّين ولم يُبايعه أهلُ الشام بالخلافة وإنما بايعوه عَلَى نُصرة عثمان والطلب بدمه. فلما كان من أمر الحَكَمين ما كان بايعوه بالخلافة. فكتب معاويةُ إلي سعد بن أبي وقاص يدعوه إلى القيام معه في دم عثمان: سلام عليك: أما بعد. فإن أحقَّ الناس بنُصرة عثمان أهلُ الشُّورى من قُريش الذين اثبتوا حقَّه واختاروِه عَلَى غيره ونُصرةِ طلحة والزبير وهما شريكاك في الأمر ونظيراك في الإسلام. وخفّت لذلك أم المؤمنين فلا تَكره ما رضوا ولا تَردّ ما قبلوا وإنما نريد أن نردّها شورى بين المسلمين. والسلام.
فأجابه سعد: أما بعد. فإن عُمَر رضي الله عنه لم يُدخل في الشورى إلا مَن تَحِل له الخلافة فلم يكن أحد أولى بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه. غَير أنَ عليًّا كان في ما فينا ولم يكن فينا ما فيه ولو لم يطلبها ولزم بيتَه لطلَبتْه العربُ ولو بأقصى اليمن. وهذا الأمر قد كرهنا أولَه
وكَرِهنا آخره. وأما طلحة والزُّبير فلو لزما بيوتَهما لكان خيراً لهما. واللّه يَغفر لأم المؤمنين ما أتتْ. وكتب معاوية إلى قيس بن سعد بن عُبادة: أما بعد. فإنما أنت يهوديّ ابن يهوديّ إن ظَفر أحبُّ الفريقين إليك عَزلك واستبدل بك وإن ظَفر أبغضُ الفريقين إليك قَتلك ونَكّل بك.
وقد كان أبوك أوترَ قوسَه ورَمى غرضَه فأكثر الحزَّ وأخطأ المَفْصِل فخذله قومُه وأدركه يومهُ ثم مات طريداً بحَوْران.
فأجابه قيس: أما بعد. فأنت وثنيّ ابن وثنيّ. دخلتَ في الإسلام كُرهاً وخرجتَ منه طوعاً لم يَقْدُم إيمانك ولم يحذَر نفاقك. ونحن أنصارُ الدين الذي خرجتَ منه وأعداء الدين الذي دخلتَ فيه. والسلام.
وخطب عليُ بن أبي طالب أصحابَه يوم صِفّين فقال: أيها الناس إنَّ الموتَ طالبٌ لا يُعجزه هارب ولا يفوته مُقيم أقْدِموا ولا تَنْكُلوا فليس عن الموتِ مَحيص. والذي نفسُ ابن أبي طالب بيده إن ضَربة سيف أهونُ من مَوت الفِراش.
أيها الناس اتقوا السيوفَ بوجُوهكم والرماح بصُدوركم ومَوعدي وإياكم الرايةُ الحمراء.
فقال رجلٌ من أهل العراق: ما رأيتُ كاليوم خطيباً يَخْطبنا! يأمرنا أن نَتقي السيوفَ بوجُوهنا والرماحَ بصُدورنا ويَعدنا رايةً بيننا وبينها مائةُ ألف سيف.
قال أبو عُبيدة في التاج: جَمعِ عليُّ بن أبي طالب رياسةَ بكر كُلٌها يوم صِفين لحُضين بن المُنذر بن الحارث بن وعْلة وجعل ألويتها تحت لوائه وكانت له رايةً سوداء يَخْفِق ظِلُّها إذا أقبل فلم يُغن أحد في صِفين غَناءه. فقال فيه عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: لمن رايةً سَواءُ يَخْفِق ظِلَّها إذ قِيل قدَّمها حُضينُ تَقدمَا ُ يقدَمُها في الصفِّ حتى يُزِيرَها حياضَ المَنايا تَقْطُر السَمَّ والدَّما جَزى اللّه عنّي والجزاءُ بكَفَّه ربيعة خيراً ما أعفَّ وأكرما وكان من هَمْدان في صِفين حُسن. فقال فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لهمدان أخلاقٌ ودينٌ يزينهم وبأسٌ إذا لاقَوْا وحُسْن كلام فلو كُنتُ بوِّاباً على باب جَنَّة لقلتُ لهمدان ادخُلوا بسَلام أبو الحسن قال: كان فيُ بن أبي طالب يَخرج كلّ غداة لصفّين في سرًعان الخيل فيقف بين الصفين ثم ينادي: يا معاوية علامَ يقتتل الناس ابرُز إلي وأبْرز إليك فيكون الأمرُ لمن غَلب. فقال له عمرو بن العاص: أنصفك الرجلُ. فقال له معاوية: أردتَها يا عمرو والله لا رضيتُ عنك حتى تُبارز عليَّا. فبرز إليه متنكّرأ فلما غَشيه علي بالسَّيف رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له سوأته فضرب عليَّ وجهَ فَرسه وانصرف عنه. فجلس معه معاوية يوماً فنظر إليه فضحك.
فقال عمرو: أضحك الله سِنَّك ما الذي أضحكك قال: من حُضور ذهنك يوم بارزتَ عليًّا إذ اتّقيتَه بعَورتك. أما واللهّ لقد صادفتَ منّاناً كريماً ولولا ذلك لَخَرم رَفغَيك بالرُمح. قال عمرو بن العاص: أما واللّه إني عن يمينك إذ دعاك إلى البِراز فأحولت عيناك ورَبا لسَحْرُك وبدأ منك ما أكره ذِكرَه لك. وذكر عمرو بن العاصي عند علي بن أبي طالب فقال فيه عليّ: عجباً لابن النابغة! يزعم أنّي بلقائه أعافِس وأمارِس أنىّ وشَرُّ القول أكذبُه إنه يَسأل فيُلحف ويسأل فيَبخل. فإذا أحمرّ البأس وحَمِي الوطيس وأخذت السيوفُ مأخذها من هام الرجال.
لم يكن له هتٌم إلا نَزْعُه ثيابه وَيمنح الناس استه أغَضه الله وتَرحَه.
مقتل عمار بن ياسر العُتبي قال: لما التقى الناس بصفٌين نَظَر معاويةُ إلى هاشم بن عُتبة الذي يقال له: المِرْقال لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: أرَّقَل لِيَمون. وكان أعورَ والرايةُ بيده وهو يقول.
أعور يَبغي نَفْسَه محلاَّ قد عالَجِ الحياةَ حتى مَلاّ لا بُد أن يَفُل أو يُفلا فقال معاويةُ لعمرو بن العاص: يا عمرو هذا المر قال واللهّ لئن زَحف بالراية زَحْفاً إنه ليومُ
أهل الشام الأطْول. ولكني أرى ابن السوداء إلى جنبه يعني عماراً وفيه عَجلة في الحرب وأرجو أن تُقدمه إلى الهَلكة. وجعل عمار يقول: أبا عتبة تقدّم. فيقول: يا أبا اليقظان أنا أعلم بالحَرْب منك دَعني أزْحف بالراية زَحْفاً. فلما أضجره وتقدم أرسل معاويةُ خيلاً فاختطفوا عماراً فكان يُسمَي أهلً الشام قتلَ عمار فَتحَ الفُتوح. أبو بكر بن أبي شيبة: عن يزيد بن هارون عن العوّام بن حَوْشب عن أسود بن مسعود عن حَنْظلة بن خُويلد قال: إني لجالس عند مُعاوية إذ أتاه رجلاًن يَختصمان في رأس عمار كل واحد منهما يقول: أنا قتلتُه.
فقال لهما عبدُ اللهّ بن عمرو بن العاص: لِيَطِبْ به أحدُكما نفساً لصاحبه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: تقتلك الفئة الباغية. أبو بكر بن أبي عشيبة عن ابن عُلَية عن ابن عَون عن الحسن عن أم سَلَمة قالت: سمعتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: تقتل عماراً الفئةُ الباغية. أبو بكر قال: حدَثنا عليُّ بن حَفص عن أبي مَعشر عن محمد بن عُمارة قال: ما زال جَدّي خزيمة بن ثابت كافًّا سلاحَه يوم صِفَين حتى قُتل عمّار فلما قُتل سًلّ سيفَه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تَقتل عمَّاراً الفئةُ الباغية. فما زال يُقاتل حتى قُتل. أبو بكر عن غُنْدَر عن شُعبة عن عمرِو بن مُرة عن عبد اللّه بن سَلَملَمة قال: رأيتُ عمِّاراً يومَ صِفين شيخاً آدم طُوالا أخذاً الحربةَ بيده ويدهُ ترعد وهو يقول: والذي نفسي بيده
لقد قاتلتُ بهذه الحَرْبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثَ مرات وهذه الرابعة. والذي نفسي بيده لو ضرَبونا حتِى يبلغوا بنا سَعفات هَجر لعرفتُ أنّا على حق وأنهم على باطل. ثم جعل يقول: صبراَ عبادَ اللّه الجنةُ تحت ظلال السيوف. أبو بكر بن أبي شَيبة عن وَكيع عن سُفيان عن حَبيب عن أبي البحتريّ قال: لما كان يوم صِفين واشتدت الحربُ دعا عمَار بشَربة لبن وشَربها وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: إن آخر شرَبة تَشربها من الدنيا شربةُ لبن. أبو ذَرْ عن محمد بن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن جَدَته أم سَلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما بَنى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم مسجدَه بالمدينة أمر باللَّبِن يُضرب وما يُحتاج إليه ثم قام رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فوَضع رداءه فلما رأى ذلك الهاجرون والأنصار وضعوا أرديتهم وأكسيتهم يرتجزون ويقولون ويعملون: لئن قَعدنا والنبيّ يَعملُ ذاك إذاً لعملٌ مُضلّلُ قالت: وكان عثمان بن عفان رجلاً نظيفاً مُتنظِّفاً فكان يَحمل اللَّبنة ويُجافي بها عن ثوبه فإذا وَضعها نفض كفّيه ونظَرَ إلى ثوبه فإذا أصابه شيء من التراب نَفَضه. فنظر إليه علي رضي اللّه عنه فأنشده:
وقائماً طَوْراً وطوْراً قاعدَا ومَن يُرى عن التَّراب حائدَا فسمعها عمَّارُ بن ياسر فجعل يَرتجزها وهو لا يدري من يعني. فَسمعه عثمانُ فقال: يا بن سُميَّة ما أعْرَفني بمَن تُعَرِّض ومعه جريدة فقال: لتكفّن أو لأعترضنَ بها وجهَك. فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظِل حائط فقال: عمَّار جِلْدة ما بين عَينيّ وأنفي فمن بَلغ ذلك منه فقد بلغ مني وأشار بيده فوَضعها بين عينيه. فكفَّ الناسُ عن ذلك وقالوا لعمّار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غَضب فيك ونخاف أن ينزل فينا قرآن. فقال: أنا أرْضيه كما غضب. فأقبل عليه فقال: يا رسول اللّه مالي ولأصحابك قال: وما لك ولهم قال: يريدون قَتلي يَحمِلون لبِنة ويَحملون على لَبِنتين. فأخذ به وطاف به في المسجِد وجعل يمسح وجهه من التراب ويقول: يا بن سُميّة. لا يَقتنك أصحابي ولكن تَقتلك الفئةُ الباغية. فلما قُتل بصفّين ورَوى هذا الحديثَ عبدُ اللّه بن عمرو بن العاص قال معاوية: هم قتلوه لأنهم أخرجوه إلى القتل. فلما بلغ ذلك عليًّا قال: ونحن قَتلنا أيضاً حمزة لأنا أخرجناه.
من حرب صفين أبو الحسن قال: كانت أيامُ صِفّين كُلها مُوافقةً ولم تكن هزيمة في أحد الفريقين إلا على حامية ثم
يَكرون. أبو بكر بن أبي شَيبة قال: انفضت وقعة صفّين عن سَبعين ألف قَتيل خمسين ألفاً من أهل الشام وعشرين ألفاً من أهل العراق. ولما انصرف الناس من صِفّين قال عمرو بن العاص: شَبًت الحربُ فأعددتُ لها مُشْرِف الحارك مَحْبوك الثَّبَجْ يصِل الشرّ بشّر فإذا وَثب الخيلُ من الشرّ مَعَج جُرْشُع أعظَمُه جُفْرته فإذا ابتل من الماء خَرج وقال عبدُ اللّه بن عمرو بن العاص: فإن شهدتْ جُمْلٌ مَقامي ومَشْهدي بصفّين يوماً شاب منها الذوائبُ عشيّةَ جا أهلُ العراق كأنّهم سَحابُ خريف صَفَفَتْه الجَنائبُ إذا قلتُ قد وَلّوا سراعاً بدت لنا كتائبُ منهم وارْجَحَنت كتائب فدارت رَحانا وِاستدارت رَحاهُم سراةَ النّهار ما تُولّى المَناكب وقالوا لنا إنا نرى أن تُبايعوا عليًّا فقُلنا بل نَرى أن تُضاربوا وقال السّيد الحميري وهو رأس الشيعة وكانت الشَيعة مِن تعظيمها له تلقي له وساداً بمسجِد الكوفة: إنّي أدينُ بما دان الوصيُّ به وشاركتْ كَفُّه كفّي بصفِّينَا
تلك الدِّماء معاً يا ربّ في عُنقِي ثم اسقني مِثلها آمين أمينا آمين مِن مِثلهم في مِثل حالهمُ في فِتية هاجَروا في اللهّ شارِينا ليسوا يُريدون غيرَ اللهّ ربّهمُ نِعْم المُراد توخّاه المُريدونا وقال النّجاشي يوم صِفين وكتب بها إلى معاوية: يِا أيها الملك المّبْدي عداوتَه انظر لنفسك أيّ الأمر تَأتَمِرُ فإن نفَسْتَ على الأقوام مَجْدَهم فابسُط يَديك فإنّ الخيرَ مُبْتَدر واعلم بأنّ علي الخير مِن نَفر شُمِّ العَرانين لا يَعْلوهم بَشَر نِعْمَ الفتى أنت إلّا أنِّ بينكما كَما تَفاضل ضوءُ الشّمس والقمر وما إخالك إلا لستَ مُنْتهياً حتى ينالَك من أظفاره ظُفر
خبر عمرو بن العاص مع معاوية سُفيان بن عُيينةَ قالت: أخبرني أبو موسى الأشعري قال: أخبرني الحسنُ قال: عَلم معاوية والله إن لم يبايعه عمرو لن يَتم له أمر فقال له: يا عمرو اتبعني. قال: لماذا للآخرة فواللّهِ ما مَعك آخرة أم للدُنيا فواللّه لا كان حتى أكونَ شريكَك فيها. قال: فأنت شريكي فيها. قال: فاكتُب لي مصرَ وكُوَرها. فكتب له مصرَ وكُورها وكتب في آخرً الكتاب: وعِلى عمرٍ و السمعُ والطاعة. قال عمرو: واكتب: إن السمع والطاعة لا يَنْقصان من شرْطه شيئاً. قال مُعاوية: لا ينظر الناس إلى هذا. قال عمرو: حتى تكتب. قال: فكتب واللّه ما يجد بدّاً من كتابتها. ودخل عتبةُ بن أبي سفيان على معاوية وهو يكلّمُ عمراً في مصر وعمرو يقول له: إنما أبايعك بها ديني. فقال عُتبة: ائتمِنِ الرجل بدينه فإِنه صاحبٌ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وكتب عمرو إلى معاوية: مُعاويَ لا أُعطيك دِيني ولم أنلْ به منك دُنيا فانظرَنْ كيف تَصنَعُ وما الدينُ والدُنيا سواءٌ وإنني لآخُذ ما تُعطي ورَأسي مُقَنع
وقالوا: لما قَدِم عمرو بن العاص على معاوية وقام معه في شأن عليّ بعد أن جعل له مصر طُعمة قال له: إن بأرضك رجلاً له شرَف واسم واللّه إنْ قام معك استهويتَ به قلوبَ الرجال وهو عُبادة بن الصامت. فأرسل إليه معاوية. فلما أتاه وَسّع له بينه وبين عمرو بن العاص فَجَلس بينهما. فحَمد اللّهَ معاوية وأثَنى عليه وذكر فضلَ عُبادة وسابقَته وذكر فضلَ عُثمان وما ناله وحضّه على القيام معه. فقال عُبادة: قد سمعتُ ماِ قلتَ أتدريانِ لمَ جلستُ بينكما في مكانكما قالا: نعم لفضلك وسابقتك وشرفك. قال: لا واللّه ما جلستُ بينكما لذلك وما كنتُ لأجلس بينكما في مكانكما ولكن بينما نحن نسير مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غَزاة تَبوك إذ نظر إليكما تسيران وأنتما تتحدثان فالتفت إلينا فقال: إذا رأيتموهما اجتمعا ففرقوا بينهما فإنهما لا يجتمعان على خير أبداً. وأنا أنها كما عن اجتماعكما. فأما ما دعوتماني إليه من القيام معكما فإن لكما عدواً هو أغلظ أعدائكما وأنا كامنٌ من ورائكم في ذلك العدوّ إن اجتمعتم على شيء دخلتُ فيه.
أمر الحكمين أبو الحسن قال: لما كان يوم الهرير وهو أعظم يوم بصفّين زَحف أهلُ العراق على أهل الشام
فأزالوهم عن مراكزهم حتى انتهوا إلى سُرادق معاوية فدعا بالفَرس وهمّ بالهزيمة ثم التفت إلى عمرو بن العاص وقال له: ما عندك قال: تَأمر بالمصاحف فتُرفَع في أطراف الرّماح ويقال: هذا كتابُ اللّه يحكم بيننا وبينكم. فلما نظر أهلُ العراق إلى المصاحف ارتدوا واختلفوا وقال بعضُهم: نحاكمهم إلى كتاب اللهّ. وقال بعضهم: لا نحاكمهم لأنا على يقين من أمرِنا ولسنا على شك. ثم أجمع رأيهُم على التحكيم. فهمّ عليّ أن يُقدم أبا الأسود الدّؤلي فأبى الناس عليه.
فقال له ابن عباس: اجعلني أحدَ الْحَكمين فواللّه لأفتلنّ لك حبلاً لا ينقطع وسطُه ولا يُنشر طرفاه. فقال له عليّ: لستَ من كيدك ولاحت كيد معاوية في شيء لا أعطيه إلا السيف حتى يَغلبه الحق. قال: وهو واللّه لا يُعطيك إلا السيف حتى يَغلبك الباطل. قال: وكيف ذلك قال: لأنك تُطاع اليوم وتُعصى غداً وإنه يُطاع ولا يُعصى. فلما انتشر عن عليّ أصحابُه قال: للّه بلاءُ ابن عباس إنه لينظر إلى الغَيب بستر رَقيق. قال: ثم اجتمع أصحابُ البرانس وهِم وجُوه أصحاب عليّ على أن يقدّموا أبا موسى الأشعري وكان مُبرنساً وقالوا: لا نرضى بغيره فقدَّمه عليِّ. وقدَم معاويةُ عمرو بن العاص. فقال مُعاوية لعمرو: إنكَ قد رُميتَ برَجل طويل الِّلسان قصير الرأي فلا تَرْمه بعَقلك كلِّه. فأخليَ لهما مكان يجتمعان فيه فأمهله عمرو بن العاص ثلاثةَ أيام ثم أقبل إليه بأنواع من الطعام يشهيِّه بها حتى إذا استبطن أبو موسى ناجاه
عمرو فقال له: يا أبا موسىَ إنك شيخ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وذو فضْلها وذو سابقتها وقد تَرى ما وَقعتْ فيه هذه الُأمة من الفُتنة العَمياء التي لا بقاءَ معها فهل لك أن تكونَ ميمون هذه الأمة فَيَحْقِن الله بك دِماءَها فإنه يقول في نفس واحدة: " أحْيا الناسَ جَميعاً أنت عليّ بن أبي طالب وأخلع أنا معاويةَ بن أبي سُفيان ونختار لهذه الأمة رجلاً لم يَحضُرْ في شيء من الفتنة ولم يَغمِس يده فيها. قال له: ومَن يكون ذلك وكان عمرو بن العاص قد فَهِم رأي أبي موسى في عبد اللّه بن عُمر فقال له: عبدُ اللهّ بن عمر. فقال: إنه لكما ذكرت ولكن كيف لي بالوثيقةِ منك فقال له: يا أبا موسى ألا بذِكْرِ اللّهِ تطمئنُّ القلوب خُذ من العُهود والمواثيق حتى ترضى. ثم لم يُبق عمروِ بنُ العاص عَهداً ولا مَوْثقاً ولا يَميناً مُؤكَدة حتى حلف بها حتى بَقيَ الشيخُ مَبهوتاً وقال له: قد أحببتُ. فنُودي في الناس بالاجتماع إليهما فاجتمعوا. فقال له عمرو: قُم فاخطب الناسَ يا أبا موسى. فقال: قُم أنت أخطبهم. فقال: سبحان اللّه! أنا أتقدّمك وأنت شيخ أصحابِ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم والله لا فعلتُ أبداً! قال: أو عسى في نفسك أمر فزاده أيمانَاً وتوكيداً. حتى قام الشيخ فخطب الناس فَحَمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني قد اجتمعتُ أنا وصاحبي على أن أخلعَ أنا علي
بن أبي طالب ويعزلَ هو معاويةَ بن أبي سفيان ونجعل هذا الأمر لعبد اللّه بن عمر فإنه لم يَحضُرْ في فتنة ولم يَغْمِس يده في دم امرىء مسلم. ألا وإني قد خلعتً عليَّ بن أبي طالب كما أختلع سيفي هذا ثم خلع سيفه من عاتقه وجلس وقال لعمرو: قُم. فقام عمرو بن العاص فحَمد اللهّ وأثنى عليه وقال: أيها الناس إِنه كان من رأي صاحبي ما قد سمعتم وانه قد أشهدكم أنه خَلعَ عليَّ بن أبي طالب كما يخلع سيفَه وأنا أُشهدكم أني قد أثبت معاوية بن أبي سفيان كما أُثبت سيفي هذا وكان قد خَلع سيفَه قبل أن يقومَ إلى الخطبة فأعاده على نفسه.
فاضطرب الناسُ وخرجت الخوارج. وقال أبو موسى لعمرو: لعنك الله! فإنّ مثلَك كمثل الكلب إن تحمِلْ عليه يَلهثْ أو تتركه يَلْهث. قال عمرو: لَعنك اللّه! فإنّ مثلك كمثل الحِمار يحمل أسفاراً. وخرٍ ج أبو موسى من فَوره ذلك إلى مكةَ مُستعيذاً بها من عليّ وحلف أن لا يكلمه أبدا. فأقام بمكة حيناً حتى كتب إليه معاوية: سلامٌ عليك أما بعد فلو كانت النيّة تدفع الخطأ لنجا المُجتهد وأعذر الطالب والحقّ لمن نَصب له فأصابه وليس لمن عَرض له فأخطأ.
وقد كان الحكمان إذ حكما على عليّ لم يكن له الخيار عليهما وقد اختاره القومُ عليك فاكره منهم ما كرهوا منك وأقبل إلى الشام فإني خيرٌ لك من عليّ ولا قوة إلا باللّه. فكتب إليه أبو موسى: سلامٌ عليك أما بعد فإني لم يكن منّي في عليّ إلا ما كان من عمرو فيك غير أني
أردتُ بما صنعتُ ما عند الله وأراد به عمرو ما عندك. وقد كان بيني وبينه شروط وشُورى عن تراض فلما رجع عمرو رجعتُ. أما قولك: إن الحكمين إذا حكما على رجل لم يكن له الخيار عليهما. فإنما ذلك في الشاة والبعير والدّينار والدِّرهم. فأما أمر هذه الأمة فليس لأحد فيما يَكره حُكم ولن يُذهب الحقَّ عجزُ عاجز ولا خُدعة فاجر. وأما دعاؤك إياي إلى الشام فليس لي رغبة عن حَرم إبراهيم. فبلغ عليّاً كتابُ معاوية إلى أبي موسى الأشعري فكتب إليه: سلام عليك أمّا بعد. فإنك امرؤ ظلمك الهوى واستدرجك الغًرور حقّق بك حُسنَ الظن لزومُك بيتَ اللّه الحرام غير حاجّ ولا قاطن فاستَقِل اللهّ يُقِلك فإن اللّهَ يَغفر ولا يغفل وأحبَّ عباده إليه التوابون. وكتبه سماك بن حَرب. فكتب إليه أبو موسى: سلامٌ عليك. فإنه واللّه لولا أني خشيتُ أن يَرفعك مني منعُ الجواب إلى أعظم ممَّا في نفسك لم أُجبك لأنه ليس لي عندك عُذر ينفعني ولا قُوّة تمنعني. وأما قولك " ولزومي بيت اللهّ الحرام غير حاجِ ولا قاطن " فإني اعتزلت أهلَ الشام وانقطعت عن أهل العراق وأصبت أقواماً صغّروا من ذنبي ما عظَمتم وعظموا من حقَي ما صغّرتم إذ لم يكن لي منكم وليّ ولا نصير. وكان علي بن أبي طالب إذ وجه الحَكمان قال لهما: إنما حُكْمنا كما بكتاب الله فُتحْييان ما أحيا القرآن وتُميتان ما أمات. فلما كاد عمرو بن العاص لأبي موسى اضطربَ الناس على عليّ واختلفوا وخرجت
لِي زلّة إليكمُ فأعتذرْ سوف أكيس بعدها وأنشَمِرْ وأجْمع الأمر الشَتيت المنتَشِرْ أبو الحسن قال: لما قَدِمَ أبو الأسود الدؤلي على معاوية عامَ الجماعة قال له معاوية: بلغني يا أبا الأسود أن علي بن أبي طالب أراد أن يَجعلك أحد الحَكمين فما كنتَ تحكم به قال: لو جعلني أحدهما لجمعتُ ألفاً من المهاجرين وأبناء المهاجرين وألفاً من الأنصار وأبناء الأنصار ثم ناشدتُهم اللهّ: المُهاجرين وأبناء المهاجرين أولى بهذا الأمر أم الطلقاء قال له معاويةُ: لله أبوك! أي حَكم كنتَ تكون لو حكَمت!
احتجاج علي وأهل بيته في الحكمين أبو الحسن قال: لما انقضى أمرُ الحَكمين واختلف أصحابُ عليّ قال بعض الناس: ما مَنع أميرَ المؤمنين أن يأمر بعضَ أهل بيته فيتكلّم فإنه لم يبق أحدٌ من رؤساء العرب إلا وقد تكلّم. قال: فبينما علي يوماً على المِنبر إذ التفت إلى الحسن ابنه فقال: قُم يا حسن فقل في هذين الرجلين: عبد اللّه بن قيس وعمرو بن العاص. فقام الحسن فقال: أيها الناس إنكم قد أكثرتم في هذين الرجلين وإنما بُعِثا ليحكما بالكتاب على الهوى فَحكما بالهَوى على الكتاب. ومَن كان هكذا لم يُسَم حَكَماً ولكنه مَحكوم عليه. وقد أخطأ عبدُ الله بن قيس إذ جعلها لعبدِ الله بن عُمر فأخطأ في ثلاث خصال: واحدة أنه خالف أباه إذ لم يَرضه لها ولا جعله من أهل الشُورى وأخرى أنه لم يستأمره في نفسه وثالثة أنه لم يَجتمع عليه المهاجرون والأنصار الذين يعقدون الِإمارة ويحكمون بها على الناس. وأما الحكومة فقد حَكم النبيّ عليه الصلاةُ والسلام سعدَ بن مُعاذ في بني قُريظة فحَكم بما يُرضي اللهّ به ولا شكّ ولو خالف لم يَرضه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ثم جلس. فقال لعبد اللهّ بن عبّاس: قُمِ. فقال عبدُ اللهّ بن عبّاس بعد أن حَمِد اللهّ وأثنى عليه: أيها الناس إنّ للحق أهلا أصابوه بالتوفيق فالناسُ بين راض به
وراغب عنه فإنه بَعث عبدَ اللهّ بن قَيس بًهدًى إلى ضلالة وبَعث عمرو بن العَاص بضَلالًة إلى هُدًى فلما التقيا رَجع عبدُ اللّه بن قَيس عن هُداه وثَبت عمرو على ضلاله. وايم اللّه لئن كانا حَكما بما سارا به لقد سار عبدُ اللّه وعليّ إمامه وسار عمرو ومعاوية إمامه فما بعد هذا من عَيب يُنتظر فقال عليّ لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب: قُم. فقام فَحمد اللهّ وأثنَى عليه وقال: أيها الناس إنّ هذا الأمر كان النظر فيه إلى عليّ والرّضا إلى غيره. فَجئتم إلى عبد اللهّ بن قَيسِ مُبرنساً فقلتم: لا نَرضى إلا به. وايم اللهّ ما استفدنا به عِلماً ولا انتظر نامنه غائباَ وما نَعرفه صاحباً. وما أفسدا بما فعلا أهلَ العراق وما أصلحا أهل الشام ولا وَضعا حق عليّ ولا رفعا باطل معاوية ولا يُذهب الحق رُقية راق ولا نَفَحة شيطان ونحن اليوم على ما كُنّا عليه أمس.
احتجاج عليّ على أهل النهروان قالواٍ: إنّ عليَّا لما اختلف عليه أهلُ النهروان والقُرى وأصحابُ البَرانس ونَزلوا قريةً يقال لها حَرُ وراء وذلك بعدَ وَقعَة الجمل فرجع إليهم عليُّ بن أبي طالب فقال لهم: يا هؤلاء مَن زعيمُكم قالوا: ابن الكَوًاء. قال: فَليَبرُز إليَّ. فَخرج إليه ابنُ الكَوَاء فقال له عليّ: يا بن
الكَوَّاء ما أخرجَكم علينا بعد رضاكم بالحَكمين ومُقامكم بالكوفة قال: قاتلت بنا عدواً لا نشك في جِهاده فزعمتَ أن قتلانا في الجنة وقَتلاهم في النار فبينما نحن كذلك إذ أرسلتَ منافقاً وحكّمت كافراً وكان مما شَكك في أمر الله أن قُلت للقوم حين دعوتَهم: كتابُ الله بيني وبينكم فإن قَضى فيَ بايعتُكم وإن قَضى عليكم بايعتُموني. فلولا شكُك لم تَفعل هذا والحق في يدك. فقال عليّ: يا بن الكوّاء إنما الجوابُ بعد الفراغ أفرَضتَ فأُجيبك قالت: نعم. قال عليّ: أما قتالك معي عدوّاً لا نشكّ في جِهاده فصدقْتَ ولو شككتُ فيهم لم أُقاتلهم. وأما قَتلانا وقَتلاهم فقد قال اللهّ في ذلك ما يُستغنى به عن قولي وأما إرسالي المُنافق وتَحْكيمي الكافر فأنت أرسلتَ أبا موسى مُبَرْنَساً ومعاوية حَكّم عَمْراً أتيت بأبي موسى مُبرنساً فقلت: لا نَرضى إلا أبا موسى فهلا قام إليِّ رجل منكم فقال: يا عليّ لا نُعطَى هذه الدنيّة فإنها ضلالة. وأما قولي لمعاوية: إن تجَرَّني إليك كتابُ اللّهِ تَبعْتُك وإنْ جَرَّك إليً تبعتَنِي.
زعمتَ أني لم أعط ذلك إلّا من شكٍّ فقد علمتُ أنِّ أوثق ما في يدك هذا الأمر فحدَّثني ويحك عن اليهوديِّ والنِّصرانيِّ ومُشركي العرب أهم أقرب إلى كتاب الله أم معاوية وأهل الشام قال: بل معاوية وأهل الشام أقرب قال عليّ: أفر سولُ الله صلى الله عليه وسلم كان أوثقَ بما في يديه من كتاب اللهّ أو أنا قال: بل رسولُ اللّه. قال: فرأيتَ اللّهَ تبارك وتعالى حين يقول: "
فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتَبعه إن كنتم صادقين يُؤتى بكتاب هو أهدى مما في يَديه قال: بلى. قال: فلِمَ أعطى رسولُ اللّه القومَ ما أعطاهم قال: إنصافاً وحُجة قال: فإني أعطيت القومَ ما أعطاهم رسوِلُ اللّه. قال ابنُ الكوَاء: فإني اخطأتُ هذه واحدة زدْني. قال عليّ: فما أعظمُ ما نقمتم عَلَيَّ قال: تحْكيم الحَكَمين نظرنا في أمرنا فوجدنا تحكيمَهما شكاًّ وتَبْذيراً. قال عليّ: فمتى سُمِّي أبو موسى حَكَماً: حين أُرسل أو حين حَكَم قال: حين أُرسل. قال: أليس قد سار وهو مُسلم وأنتَ ترجو أن يَحكم بما أنزل الله قال: نعم. قال عليّ: فلا أرى الضلالَ في إرساله. فقال ابنُ الكوَاء: سمَي حَكَماً حين حَكَمٍ. قال: نعم إذاً فإرسالُه كان عَدْلاً. أرأيتَ يا بن الكوَاء لو أنّ رسولَ اللّه بَعث مُؤمنا إلى قوم مُشركين يدعوهم إلى كتاب الله فارتدَ على عَقبه كافراً كان يَضرٌّ نبيَّ اللّه شيئاً قال. لا. قال عليّ: فما كان ذَنبي أن كان أبو موسى ضَلَّ هل رضيتُ حكومته حين حَكم أو قولَه إذ قال قال ابن الكوَاء: لا ولكنَك جعلتَ مُسلماً وكافراً يحَكمان في كتاب الله.
قال عي: ويلك يا بن الكوَاء! هل بَعث عَمْراً غيرُ معاوية وكيف أُحكَمُه وحُكْمه على ضرَب عُنقي إنما رَضي به صاحبهُ كما رضيتَ أنت بصاحبك وقد يَجتمع المؤمن والكافر يحكمان في أمر الله. أرأيتَ لو أنّ رجلاً مؤمناً تزوَج يهوديًة أو نصرانية فَخافا شِقاقاً بينهما ففَزع الناسُ
إلى كتاب الله وفي كتابِه " رجل من النَّصارى ورجل من المُسلمين الذين يجوز لهما أن يحكما في كتاب الله فَحَكَما قال ابن الكَوَّاء: وهذه أيضاً أمهِلنا حتى ننظر. فانصرفَ عنهم عليّ. فقال له صَعصَعة بن صُوحان: يا أمير المؤمنين ائذن لي في كلام القوة. قال: نعم ما لم تَبْسط يداً. قال: فنادى صَعصعةُ ابنَ الكَوَّاء فَخَرج إليه فقال: أنْشُدكم باللّه يا معشرَ الخارجين ألّا تكونوا عاراً على مَن يَغزو لغيره وألاّ تَخْرجوا بأرض تُسمّوا بها بعد اليوم ولا تَستعجلوا ضلالَ العام خشيةَ ضلال عامٍ قابل.
فقال له ابنُ الكَوَّاء: إنَ صاحبك لقينا بأمرٍ قولُك فيه صغير فامسك. قالوا: إنّ عليّاً خرج بعد ذلك إليهم فَخَرج إليه ابنُ الكوَّاء فقال له عليّ: يا بن الكوَاء إنه مَن أذنب في هذا الدِّين ذَنباً يكوِن في الإسلام حَدَثاً استتبناه من ذلك الذنب بعَينه وإن توَبتك أن تَعرف هُدى ما خرجتَ منه وضلالَ ما دخلتَ فيه. قال ابن الكوَّاء: إننا لا ننكر أنا قد فًتِنّا. فقال له عبدُ اللّه بن عمرو بن جُرموز: أدرَكْنا والله هذه الآية " أحَسِبَ الناسُ أن يُتْرَكُوا أن يَقولوا آمَنَّا وهُم لا يُفتَنون وكان عبدُ الله من قُرّاء أهل حَرُوراء فرجعوا فصلّوا خلفَ عليّ الظهرِ وانصرفوا معه إلى الكوفة ثم اختلفوا بعد ذلك في رَجعتهمِ ولامَ بعضهم بعضاَ. فقال زيدُ بن عبد الله الرَّاسبي
شَكَكتم ومن أرسى ثبيراً مكانَه ولو لم تَشُكُّوا ما أنثنيتم عن الحَرْب وتَحْكيمكم عَمراً على غير تَوْبةٍ وكان لعبد اللّه خَطْباً من الخطْبَ فأنكَصَه للعَقْبِ لما خلا به فأصبح يَهوْى من ذُرى حالقٍ صَعْب وقال الرَياحي: ألم تَر أنّ اللّه أنزل حُكمَه وعَمْرٌ و وعبدُ اللّه مُخْتلفانِ وقال مُسلم بن يزيد الثقفي وكان من عُبَّاد حَرُوراء: إن كان ما عِبْناه عَيْباً فحسبُنا خَطايا بأخْذ النّصح من غير ناصِح َإن كان عَيْباً فاعظمنَّ بتَركنا عليّاً على أمرٍ من الحقِّ واضح نحنُ أُناسٌ بين بين وعَلَّنا سُررنا بأمرٍ غبه غيرُ صالح ثم خرجوا عَلَى علي فقتلهم بالنهروان.
خروج عبد اللّه بن عباس على عليّ قال أبو بكر بن أبي شيبة: كان عبدُ الله بن عباس مِن أحبّ الناس إِلى عمر بن الخطاب وكان يُقدّمه على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولم يَستعمله قط فقال له يوماً:
كِدت استعملك ولكن أخشى أن تستحل الفيء على التأويل. فلما صار الأمرُ إلى عليّ استعمله على البصرة. فاستحل الفيء على تأويل قول الله تعالى " خمسه وللرسول ولذي القربى أبو مِخْنف عن سُليمان بن أبي راشد عن عبد الرحمن بن عُبيد قال: مَرَّ ابن عباس على أبي الأسود الدُؤلي فقال له: لو كنتَ من البهائم لكنتَ جَملاً ولو كنتَ راعياً ما بلغت المَرعى.
فكَتب أبو الأسود إلى علي: أما بعد. فإِن الله جَعلك والياً مُؤتمناً وراعياً مسؤولاً وقد بَلوناك رحمك الله فوجدناك عظيمَ الأمانة ناصحاً للأمة تُوَفّر لهم فَيئَهم وتَكفّ نفسك عن دُنياهم فلا تأكلُ أموالهم ولا تَرتشي بشيء في أحكامهم. وابنُ عمّك قد أكل ما تحت يديه من غير عِلْمك فلم يَسَعْني كتمانُك ذلك. فانظر رحمك اللّه فيما هنالك وأكتب إليَّ برأيك فما أحببتَ أتبعه إن شاء اللّه. والسلام. فكتب إليه عليّ: أما بعد. فمثلُك نَصح الإمام والأمة ووالَى على الحق وفارق الْجَوْر. وقد كتبتُ لصاحبك بما كتبتَ إلي فيه ولم أُعلمْه بكتابك إلي. فلا تدع إعلامي ما يكون بِحضرتك مما النظرُ فيه للأمة صلاح فإنّك بذلك جَدير وهو حق واجب للّه عليك. والسلام. وكتب عليّ إلى ابن عبِّاس: أما بعد. فإنه قد بلغني عنك أمرٌ إن كنتَ فعلتَه فقد أسخطتَ الله وأخرَبتَ أمانتك وعَصيتَ إمامك وخنتَ المسلمين. بلغني
أنك خَرّبت الأرض وأكلت ما تحت يدك. فارفعْ إلي حسابك واعلم أنّ حسابَ الله أعظم من حساب الناس. والسلام. وكتب إليه ابنُ عباس: أما بعد. فإنّ كلَّ الذي بلغك باطلٌ وأنا لِمَا تحت يدي ضابط وعليه حافظ فلا تُصَدَق عليً الظنين. فكتب إليه عليّ: أما بعد. فإنه لا يَسعني تَرْكُك حتى تُعلمني ما أخذتَ من الجزْية من أين أخذتَه وما وضَعتَ منها أين وضعته.
فاتَّقِ الله فيما ائتمنتُك عليه واسترعيتُك إياه ٍ فإن المَتاع بما أنت رازمُه قليل وتَبِعاتُه وبيلة لا تَبيد. والسلام. فلما رأى أن عليا غيرُ مُقلع عنه كتب إليه: أما بعد. فإنه بَلغني تعظيمُك عليََّ مَرْزِئة مالٍ بلغك أني رزأتُه أهلَ هذه البلاد. وايم الله لأنْ ألقى الله بما في بَطن هذه الأرض من عِقيانها ومخبئها وبما على ظهرها من طِلاعها ذَهباً أحب إليً من أن ألقي اللّه وقد سَفكتُ دماء هذه الأمة لأنالَ بذلك المُلك والإمرة. ابعث إلى عملك مَن أحبيْتَ فإني ظاعنٌ. والسلام.
فلما أراد عبدُ الله المسيرَ من البَصرة دعا أخوالَه بني هلال بن عامر بن صَعصعة ليمنعوه. فَجاء الضحاك بنِ عبد الله الهِلاليُ فأجاره ومعه رجل منهم يقال له: عبدُ الله بن رَزين. وكان شجاعاً بَئيساً فقالت بنو هلال: لا غنى بنا عن هَوازن. فقالت هوازن: لا غنى بنا عن بني سُليم. ثم أتتهم قَيس. فلما رأى اجتماعَهم له حَمل ما كان في بيت مال البَصرة وكان فيما زعموا ستة آلاف ألف فَجعله في الغرائر. قال: فحدثني الأزرق اليَشكريُ قال: سمعنا
أشياخَنا من أهل البَصرة قالوا: لما وَضع المالَ في الغرائر ثم مَضى به تَبِعَتْه الأخْماس كلها بالطَّف على أربع فراسخِ من البَصرة فوافقوه. فقالت لهِم قَيسِ: واللّه لا تصلوا إليه ومنا عين تطْرف. فقال ضمْرة وكان رأسَ الأزد: والله إنَ قيساَ لإخوتُنا في الإسلام - وجيرانُنا في الدار وأعواننا على العدوّ. إن الذي تَذهبون به المال لو رُدَ عليكم لكان نصيبُكم منه الأقلّ وهم خيرٌ لكم من المال. قالوا: فما ترى قال: انصرفوا عنهم. فقالت بكرُ بن وائل وعبدُ القَيس: نِعمَ الرَّأي رَأي ضَمْرة واعتزلوهم. فقالت بنو تميم: واللهّ لا نُفارقهم حتى نقاتلَهم عليه.
فقال الأحْنَفُ بن قَيس: أنتم والله أحق ألاّ تقاتلوهم عليه وقد تَرك قتالَهم مَن هو أبعد منكم رَحِماً. قالوا: والله لنُقاتلنّهم. فقال: واللهّ لا نعاونكم على قتالهم وانصرف عنهم. فقدم عليهم ابن المُجاعة فقاتَلهم. فحمَل عليه الضحاكُ ابن عبد الله فَطعنه في كَتفه فصَرَعه فسقط إلى الأرض بغير قَتل. وحَمَل سَلمة بن ذُؤيب السَّعدي على الضّحاك فصرعه أيضاً وكثرُت بينهم الجراح من غير قَتل. فقال الأخْماسُ الذين - اعتزلوا: والله ما صنعتم شيْئاً. اعتزلتم قتالهم وتركتموهم يَتشاجرون. فجاءوا حتى صرَفوا وجوه بَعضهم عن بعض وقالوا لبني تميم: والله إن هذا اللُؤم قَبيح لنحن أسخى أنفساً منكم حين تركنا أموالَنا لبني عمكم وأنتم تقاتلونهم عليها خلوا عنهم وأرواحهم فإن القومَ فُدحوا. فانصرفوا عنهم ومَضى معه ناسٌ من قَيس فيهم
الضّحاك بن عبد اللّه وعبدُ اللّه بن رَزين حتى قدموا الحجازَ فنزل مكةَ فَجعل راجزٌ لعبد اللّه بن عبّاس يسوق له في الطريق ويقول: صَبّحتُ من كاظمةَ القَصرَ الخَرِبْ مع ابن عبّاس بن عبد المُطّلبْ وجعل ابن عبّاس يرتجز ويقول: آوِي إلى أهلِك يِا رَباب آوِي فقد حان لكِ الإيابُ وجعلِ أيضاً يرتجز ويقول: وهُنّ يمشين بناء. هميساً إنْ يصْدُق الطَّيرُ نَنِك لَميسَا فقيل له: يا أبا العبّاس أمِثلك يَرْفث في هذا الموضع قال: إنما الرفث ما يقال عند النّساء.
قال أبو محمد: فلما نزل مكةَ اشترى من عطاء بن جُبير مولى بني كعب من جواريه ثلاثَ مولّدات حجازّيات يقال لهن: شاذن وحَوراء وفُتون. بثلاثة آلاف دينار.
وقال سليمانُ بن أبي راشد عن عبد اللّه بن عبيد عن أبي الكَنُود قال: كنت من أعوان عبد اللّه بالبَصرة فلما كان من أمره ما كان أتيتُ عليًّا فأخبرتُه فقال: " ثم كتب معه إليه: أما بعد فإني كنتُ أشْركتُك في أمانتي ولم يَكن من أهل بيتي رجل أوْثقَ عندي منك بمواساتي ومؤزرتي بأداء
الأمانة فلما رأيتَ الزَّمان قد كَلب عَلَى ابن عمك والعدوّ قد حَرِدَ وأمانةَ الناس قد خَربت وهذه الُأمة قد فُتنت قلبتَ لابن عمك ظهر المجن ففارقتَه مِع القوم المفارقين وخَذلَته أسوأ خِذلان وخُنته مع مَن خان. فلا ابنَ عمكِ آسيت ولا الأمانةَ إليه أدَيتَ كأنك لم تكني على بَينة من ربك وإنما كِدت أُمة محمد عن دُنياهم وغَدرتهم عن فَيئهم. فلما أمكنتْك الفُرصة في خِيانةِ الأمة أسرعتَ الغَدرة وعالجتَ الوَثْبة فاخْتَطفْتَ ما قَدرت عليه من أموالهم وَانْقلبْتَ بها إلى الحجاز كأنك إنما حُزت عن أهلك ميراثَك من أبيك وأُمك. سبحان اللّه! أما تُؤمن بالمَعاد أما تخاف الحِساب! أما تَعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً! وتَشتري الإماءَ وتنكحهم بأموال اليتامى والأرامل والمُجاهدين في سبيل الله التي أفاء الله عليهم! فاتَقِ الله وأد إلى القوم أموالَهم فإنك والله لئن لم تَفعل وأمكنني اللّه منك لُأعذرن إلى الله فيك. فوالله لو أنَّ الحَسن والحسين فعلا مثلَ الذي فعلتَ ما كانت لهما عندي هَوادة ولما تركتُهما حتى أخذَ الحقَّ منهما. والسلام. فكتب إليه ابن عبَّاس: أما بعد. فقد بَلغني كتابُك تُعظم عَلي أمانة المال الذي أصبتُ من بيت مال البَصْرة. ولعمري إن حقّي في بيت مالك الله أكثر من الذي أخذتُ.
والسلام. فكتب إليه عليّ: أما بعد فإن العَجب كل العجب منك إذ ترى لنفسك في بيت مال اللهّ أكثرَ مما لرجل من المسلمين قد أفلحتَ إن كان تمنيك الباطلَ وادعاءَك مالا يكون يُنجيك
من الإثم ويُحل لك ما حَرم الله عليك. عَمْرك الله! إنك لأنت البعيد قد بلغني أنك اتخذت مكة وَطناً وضربتَ بها عَطناً تشتري المولّدات من المدينة والطائف وتختارهن على عينك وتُعطيِ بهنّ مالَ غيرك. وإني أقسم بالله ربه وربك ربِّ العزة ما أُحبّ أن ما أخذت من أموالهم لي حلالاً أدعه ميراثاً لعَقبي. فما بال اغتباطِك به تأكلُه حراماً! ضحِّ رُوَيداً. فكأنك قد بلغتَ المَدى وعُرضتْ عليك أعمالُك بالمَحل الذي يُنادَى فيه بالحَسرة ويَتمنّى المُضيع التَوبة والظالم الرًجعة. فكتَب إليه ابنُ عبّاس: والله لئن لم تَدعني من أساطيرك لأحملنه إلى معاوية يُقاتلك به. فكف عنه عليّ.
مقتل علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه سُفيان بن عُيينة قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخرج بالليل إلى المسجد. فقال أناسٌ من أصحابه: نخشى أن يصيبَه بعضُ عدوٌه ولكن تعالوا نحرسه. فَخرج ذات ليلة فإذا هو بنا. فقال: ما شأنُكم فْكتمناه. فعَزم علينا. فأخبرناه. فقال: تحْرسُوني مِن أهل السماء أو من أهل الأرض قلنا: من أهل الأرض. قال: إنه ليس يقضى في الأرض حتى يُقضى في السماء. التميميَّ بإسناد له قال: لما تواعَد ابنُ مُلْجَم وصاحباه بقَتل عليّ ومعاوية وعمرو بن العاص دخَل ابنُ مُلجم المسجدَ في بُزوغ الفجر الأول فدخل في الصلاةِ تطوُّعاً ثم افتتح في القراءة وجعل يُكرِّر هذه الآية " فأقبل ابنُ أبي طالب بيده مخْفَقة وهو يُوقظ الناس للصلاة ويقول: أيها الناسِ الصلاة الصلاة. فمرّ بابن مُلْجَم وهو يردّد هذه الآية فظن عليّ أنه ينسى فيها ففتح عليه فقال: واللهّ رَؤوف بالعبادِ. ثم انصرف علِىّ وهو يريد أن يدخل الدار فاتبعه فضَربه على قَرْنه ووقع السيف في الجدار فأطار فِدْرة من آخره فابتدره الناس فأخذوه ووقع السيف منه فجعل يقوِلَ: أيها الناس
احذروا السيفَ فإنه مَسموم. قال: فأُتي به عليّ فقال: احبِسوه ثلاثاً وأطعموه واسقُوه فإن أعش أر فيه رَأي وإنْ أمت فاقتُلوه ولا تمثّلوا به. فمات من تلك الضرِبة. فأخذه عبدُ اللّه بن جعفر فقَطع يديه ورجليه فلم يَفزع ثم أراد قطعَ لسانه ففزع. فقيل له: ِ لم لَم تَفْزع لقطع يديك ورِجْليك وفزعت لقَطْع لسانك قال: إني أكره أن لا تَمُر بي ساعة لا أذْكر اللّه فيها. ثم قطعوا لسانه وضربوا عُنقه. وتوجّه الخارجيّ الآخرً إلى معاوية فلم يجد إليه سبيلاً. وتَوخه الثالث إلى عمرو فوجده قد أغفل تلك الليلة فلم يَخْرج إلى الصلاة وقدم مكانه رجلاً يقال له خارجة فضَربه الخارجيّ بالسيف وهو يظنه عمرو بن العاص فقتلَه. فأخذه الناسُ فقالوا: قتلتَ خارجة. قال: أو ليس عمراً قالوا له: لا. قال: أردتُ عمراً وأراد اللّه خارجة. وفي الحديث: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعلي: ألا أُخبرك بأشدّ الناس عذاباً يوم القيامة قال: أخبرني يا رسول الله. قال: فإن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عاقرُ ناقة ثمود وخاضبُ لْحِيتك بدم رأسك.
وقال كُثير عَزّة: ألا إن الأئِمة من قُريش وُلاة العَهْد أربعةٌ سواءُ علي والثلاثةُ من بَنِيه همُ الأسباط ليس بهمِ خَفاء
وسِبْط لا يَذُوق الموتَ حتى يَقُودَ الخيلَ يَقدمها الَلواء تَغيْب لا يُرى عنهم زماناً برَضْوى عنده عَسَل وماء قال الحسن بن عليّ صبيحة الليلة التي قتل فيها في بن أبي طالب رضي الله عنه: حدِّثني أبي البارحة في هذا المسجد فقال: يا بني إني صلّيت البارحة ما رزق اللهّ ثم نمت نومة فرأيت رسولَ اللهّ صلى الله عليه وسلم فشكوتُ له ما أنا فيه من مخالفة أصحابي وقلِة رَغْبتهم في الجهاد فقال لي: ادْع اللّه أن يُريحك منهم فدعوت اللّه. وقال الحسنُ صبيحةَ تلك الليلة: أيها الناس إنه قتل فيكم الليلة رجلٌ كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يبعثه فيَكْتنفه جبريلُ عن يمينه وميكائيلُ عن يساره فلا يَنثني حتى يَفْتح الله له ما ترك إلا ثلثَمائة درهم.
خلافة الحسن بن علي ثم بُويع للحسن بن عليّ. وأُمّه فاطمة بنت رسوله الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان سنة أربعين من التاريخ فكتب إليه ابنُ عباس: إن الناس قد ولوك أمرَهم بعد عليّ فاشدُد عن يمينك وجاهد عدوَك واستُر من الظنين ذنبه بما لا يَثْلم دينك واستعمل أهلَ البيوتات
تَسْتصلح بهم عشائرَهم. ثم اجتمع الحسنُ بن علي ومعاوية بمَسكن من أرض السَّواد من ناحية الأنبار واصطلحا وسلمَ الحسنُ الأمرَ إلى معاوية وذلك في شهر جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين ويسمى عام الجماعة. فكانت ولاية الحسن سبعةَ أشهر وسبعة أيام ومات الحسنُ في المدينة سنة تِسْع وأربعين وهو ابن ست وأربعين سنة. وصلى عليه سعيدُ بن العاص وهو والي المدينة. وأوصى أن يُدفن مع جدّه وفي بيت عائشة فمنعه مروانُ بن الحكم فردوه إلى البقيع. وقال أبو هريرة لمروان: علامَ تمنع أن يُدفن مع جده فلقد أشهدُ أني سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: الحسنُ والحُسين سيدا شباب أهل الجنة. فقال له مروان: لقد ضيع الله حديثَ نبيه إذ لم يَرْوِه غيرك. قال: أما إنك إذ قلت ذلك لقد صحبتُه حتى عرفتُ مَن أحبَّ ومن أبغضَ ومن نَفىِ ومن أقر ومن دعا له ومن دعا عليه. ولما بلغ معاويةَ موتُ الحسن بن علي خر ساجداً لله ثم أرسل إلى ابن عباس وكان معه في الشام فعزاه وهو مُستبشر وقال له: ابن كم سنة مات أبو محمد فقال له: سنِه كان يُسمع في قُريش فالعجب من أن يجهله مثلُك! قال: بلغني أنه ترك أطفالاً صغاراً. قال: كُل ما كان صغيراً يَكْبُر وإن طِفْلَنَا لكَهْل وإن صغيرَنا لكَبير. ثم قال: مالي أراك يا معاويةُ مُستبشراً بموت الحسن ابن علي فوالله لا ينْسأ في أجلك ولا يَسُد حُفرتك وما أقَل بقاءَك وبقاءَنا بعده. ثم خرج ابنُ عباس فبعث إليه معاوية
ابنَه يزيد فقعد بين يديه فعزّاه واستعبر لموت الحَسن فلما ذهب أتبعه ابنُ عباس بَصره وقال: إذا ذهب آل حَرب ذَهب الْحِلم من الناس. ثم اجتمعِ الناسُ على معاوية سنةَ إحدى وأربعين وهو عام الجماعة فبايعه أهلُ الأمصار كلها وكتب بينه وبين الحَسن كتاباً وشروطاً ووصله بأربعين ألفا. وفي رواية أبي بكر بن أبي شَيبة أنه قال له: واللّه لأجيزنك بجائزة ما أجزتُ بها أحداً فبلك ولا أجيز بها أحداً بعدك فأمر له بأربعمائة ألف.
خلافة معاوية هو معاوية بن أبي سفيان بن حَرب بن أُمية بن عبد شَمس بن عبد مناف. وكُنيته أبو عبد الرحمن وأُمه هند بنت عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. ومات مُعاوية بدمشق يوم الخميس لثمانٍ بقين من رجب سنة ستّين وصلى عليه الضحَاك بن قَيس وهو ابنُ ثلاث وسبعين سنة ويقال ابن ثمانين سنة. كانت ولايتَه تسع عشرةَ سنة وتسعة أشهر وسبعة وعشرين يوماً. صاحب شرطته يزيد بن الحارث العَبْسي. وعلى حَرَسه - وهو أود من اتخذ حرساً - رجل من الموالي يقال له المختار. وحاجبُه سعد مولاه. وعلى القضاء أبو إدريس الخَوْلاني.
وولد له عبدُ الرحمن وعبد اللّه مات فاختة بنت قرظة. أما عبدُ الرحمن فمات صغيراً وأما عبدُ اللّه فمات كبيراً وحنان ضعيفاً ولا عقب له من الذكور. وكان له بنت يقال لها عاتكة تزوّجها يزيدُ بن عبد الملك وفيها يقول الشاعر.
يا بيتَ عاتكة الذي أتعزَلُ حَذَر العدا وبه الفؤادُ مُوَكَّلُ ويزيدُ بن معاوية وأُمه ابنة بَحْدل كَلْبية.
فضائل معاوية
ذكر عمرو بنُ العاص معاوية فقال: احذروا قرْم قريش وابنَ كريمها مَن يضحك عند الغضب ولا ينام إلا على الرِّضا ويَتناول ما فوقه من تحته. سُئل عبد اللّه بن عبُّاس عن معاوية فقال: سَما بشيء أسرة واستظهر عليه بشيء أعلنه فحاول ما أسرَّ بما أعلن فنالَه. كان حِلْمه قاهراً لغَضبه وجُوده غالباً على مَنْعه يصل ولا يَقطع ويجمع وِلا يفرِّق فاستقام له أمره وجرى إلى مُدًته. قيل: فأخبرنا عن ابنه. قال: كان في خير سَبيله وكان أبوه قد أحكمه وأمره ونَهاه فتعلّق بذلك وسَلك طريقاً مُذللا له. وقال معاوية: لم يكن في الشَّباب شيء إلا كان مني فيه مُستمتع غير أني لم أكن صُرَعةً ولا نُكَحة ولا سِبّاً. قال الأصمعي: الحب: كثير السباب: ميمون بن مِهرْان قال: كان أوّلَ من جَلس بين الخُطبتين معاويةُ وأوّلَ من وَضع شرفَ العطاء ألفين معاوية وقال معاوية: لا زلتُ أطمع في الخلافة منذ قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: يا معاوية إذا ملكتَ فأحْسن. العُتْبي عن أبيه قال: قال معاوية لقُريش: ألا أخبركم عني وعنكم قالوا: بلى. قال: فأنا أطير إذا وقعتم وأقع إذا طِرْتم ولو وافق طَيراني طيرانَكم سَقَطنا جميعاً. قال معاوية: لو أن بيني وبين الناس شَعرة ما انقطعت أبداً. قيل له: وكيف ذلك قال: كنت إذا مدوها أرخيتها ماذا أرْخوها مددتها. وقال زياد: ما غلبني أميرُ المؤمنين معاويةُ قَط إلا في أمر واحد طلبتُ رجلاً منة عُمالي كَسر عليّ الخِراج فلجأ إليه فكتبتُ إليه: إن هذا فساد عَمليِ
وعملك. فكتب إلي: إنه لا ينبغي لنا أن نَسوس الناسَ سياسةً واحدة لا نلين جميعاً فيمرحَ الناسُ في المَعصية ولا نَشتد جميعاً فنَحملَ الناسَ على المَهالك ولكن تكون أنت للشدة والفَظاظة والغِلظة وأكون أنا للرأفة والرحمة.
أخبار معاوية قدم معاويةُ المدينةَ بعد عام الجماعة فدخل دارَ عثمان بن عفّان فصاحت عائشة بنت عثمان وبكت ونادت أباها. فقال معاوية: يا ابنة أخي إنّ الناس أعْطَوْنا طاعةً وأعطيناهم أماناً وأظهرنا لهِم حِلْماً تحته غَضب وأظهروا لنا ذُلّاً تحته حِقْد ومع كل إنسان سيفُه ويرى موضع أصحابه فإن نكثناهم نكثوا بنا ولا ندري أعلينا تكون أمْ لنا. لأن تكوني ابنةَ عمِّ أمير المؤمنين خيرٌ من أن تكوني امرأة من عُرض الناس.
القَحْذَميّ قال: لما قَدم معاويةُ المدينة قال: أيها الناس إنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يُرد الدنيا ولم تُرده وأما عمر فأرادتْه ولم يُردها وأما عثمان فنال منها ونالتْ منه وأما أنا فمالتْ بي وملتُ بها وأنا ابنُها فهي أُمي وأنا ابنُها فإن لم تَجدوني خيركم فأنا خيرٌ لكم. ثم نزل. قال جُويرية بن أسماء. نال بُسْرُ بن أرطأة مِن عليّ بن أبي طالب عند معاوية وزيدُ بن عمر بن
الخطاب جالس فعلا بُسْراً ضرباً حتى شَجّه. فقال معاويةُ: يا زيد عمدتَ إلى شيخ قُريش وسيّد أهل الشام فضربتَه! وأقبل على بُسْر وقال: تَشتم عليا وهو جدُه وأبوه الفاروق على رؤوس الناس! أفكنتَ تراه يَصبر على شَتْم عليّ! وكانت أمَ زيد أمُ كُلثوم بنت علي بن أبي طالب. ولما قدم معاويةُ مكةَ وكان عمر قد استعمله عليها دخل على أُمه هِنْد فقالت له: يا بني. إنه قلما وَلدت حُرة مثلَك وقد استعملك هذا الرجل فاعمل بما وافقه أحببت ذلك أم كرهتَه. ثم دخل على أبيه أبي سفيان فقال له: يا بني. إن هؤلاء الرهط من المُهاجرين سَبقونا وتأخرنا فرفعهم سبقُهم وقصر بنا تأخيرُنا فصرْنا أتباعاً وصاروا قادةً وقد قلّدوك جَسيماً من أمرهم فلا تُخالفن رأيَهم فإنك تَجري إلى أمد لم تَبلغه ولو قد بلغتَه لتنفست فيه. قال معاوية: فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ. العتبي عن أبيه: أن عمر بن الخطاب قَدِمِ الشام على حِمار ومعه عبدُ الرحمن بن عوف على حِمار فتلقاهما معاويةُ في موكب نبيل فجاوز عمرَ حتى أُخبر فرجع إليه فلما قَرُب منه نزل فأعرض عنه عمر فجعل يمشي إلى جنبه راجلاً. فقال له عبدُ الرحمن بن عوف: أتعبتَ الرجل. فأقبل عليه عمر فقال: يا معاوية أنت صاحبُ الموكب آنفاً مع ما بلغني من وقُوف ذوي الحاجات ببابك قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذلك قال: لأنا في بلاد لا يُمتنع فيها من جواسيس العدوِّ فلا بُدّ لهم مما
يُرهبهم من هيبة السلطان فإن أمرتَني بذلك أقمتُ عليه وإن نهيتني عنه انتهيت. قال: لئن كان الذي قلتَ حقاً فإنه رأيُ أريب ولئن كان باطلًا فإنها خُدعة أحب ولا أمرك به ولا أنهاك عنه. فقال عبدُ الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر من هذا الفتى عما أوردتَه فيه. قال: لحسن مَصادرهِ وموارده جشّمناه ما جشمناه. وقال معاوية لابن الكَوّاء: يا بن الكواء أنشدك اللّه ما عِلْمُك فيًّ قال: أنشدَتَني اللّه! ما أعلَمُكَ إلا واسع الدُّنيا ضيق الآخرة. ولما مات الحسنُ بن عليّ حَجّ معاوية فدخل المدينة وأراد أن يَلْعن عليَّا على مِنبر رسول الله صلى عليه وسلم.
فقيل له: إن هاهنا سعدَ بن أبي وقاص ولا نراه يرضى بهذا فابعث إليه وخُذ رأيه. فأرسل إليه وذكر له ذلك. فقال: إن فعلت لأخرُجن من المسجد ثم لا أعود إليه. فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد. فلما مات لَعنه عَلَى المنبر وكتب إلى عماله أن يَلعنوه على المنابر ففعلوا. فكتبتْ أم سَلمة زوج النبيّ صلى عليه وسلم إلى معاوية: إنكم تلعن اللّه ورسولَه على منابركم وذلك أنكم تلعنون عليّ بن أبي طالب ومن أحبّه وأنا أشهد أن اللّه أحبَّه ورسولَه فلم يلتفت إلى كلامها. وقالت بعضُ العلماء لولده: يا بني إن الدنيا لم تَبْن شيئاً إلا هَدمه الدِّين وإنّ الدين لم يبْن شيئاً فهدمتْه الدنيا ألا ترى أنّ قوماً لعنوا عليّا ليخْفِضوا منه فكأنما أخذوا بناصيته جرّاً إلى السماء. ودخل صعصعة بن صُوحان على مُعاوية ومعه عمرو بن العاص
جالسٌ على سريره فقال: وَسِّع له على تُرابيّة فيه. فقال صعصعةُ: إني واللّه لتُرابيّ منه خُلقت وإليه أعود ومنه أبعث وإنك لمارج من مارج من نار. العُتبي عن أبيه قال قال معاويةُ لعمرو بن العاص: ما أعجبُ الأشياء قال غَلبة مَن لا حقَّ له ذا الحقّ على حقه. قال معاوية: أعجبُ من ذلك أن يُعطى من لا حق له ما ليس له بحق من غير غَلبة. وقال معاويةُ: أُعنت على عليّ بأربعة كنت أكتم سري وكان رجلاً يُظهِره وكنتُ في أصلح جند وأطوعه وكان في أخْبَث جُند وأعْصاه وتركتُه وأصحابَ الجمل وقلتُ: إن ظَفروا به كانوا أهونَ علي منه وإن ظَفِر بهم اغتر بها في دِينه وكنتُ أحب إلى قُريش منه. فيالك مِن جامع إلي ومُفرق عنه! العتبي قال: أراد معاوية أن يقدم ابنه يزيد على الصائفة فكره ذلك يزيد فأبى معاوية إلى أن يفعل فكتب إليه يزيد يقول: نجيٌّ لا يزال يعد ذنباً لتقطع وصل حبلك من حبالي فيوشك أن يريحك من أذاتي نزولي في المهالك وارتحالي وتجهز للخروج فلم يتخلف عنه أحد حتى كان فيمن خرج أبو أيوب الأنصاري صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال العتبي: وحدثني أبو إسحاق إبراهيم قال: أرسل معاوية إلى ابن عباس قال: يا أبا العباس
إن أحببت خرجت مع ابن أخيك فيأنس بك ويقربك وتشير عليه برأيك. ولا يدخل الناس بينك وبينه فيشغلوا كل واحد منكما عن صاحبه. وأقل من ذكر حقك فإنه إن كان لك فقد تركته لمن هو أبعد منا حبّاً وإن لم يكن لك فلا حاجة بك إلى ذكره مع أنه صائر إليك وكل آت قريب ولتجدن إذا كان ذلك خيراً لكم منا.
فقال ابن العباس: والله لئن عظمت عليك النعمة في نفسك لقد عظمت عليك في يزيد وأما ما سألتني من الكف عن ذكر حقي فإني لم أغمد سيفي وأنا أريد أن أنتصر بلساني. ولئن صار هذا الأمر إلينا ثم وليكم من قومي مثلي كما ولينا من قومك مثلك لا يرى أهلك إلا ما يحبون.
قال: فخرج يزيد فلما صار على الخليج ثقل أبو أيوب الأنصاري فأتاه يزيد عائداً فقال: ما حاجتك أبا أيوب فقال: أما دنياكم فلا حاجة لي فيها ولكن قدمني ما استطعت في بلاد العدو فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدفن عند سور القسطنطينية رجلٌ صالح أرجو أن أكون هو. فلما مات أمر يزيد بتكفينه وحمل على سريره ثم أخرج الكتائب.
فجعل قيصر يرى سريراً يحمل والناس يقتتلون. فأرسل إلى يزيد: ما هذا الذي أرى قال: صاحب نبينا وقد سألنا أن تقدمه في بلادك ونحن منفذون وصيته أو تلحق أرواحنا بالله.
فأرسل إليه: العجب كل العجب: كيف يدهى الناس أباك وهو يرسلك فتعمد إلى صاحب
نبيك فتدفنه في بلادنا فإذا وليت أخرجناه إلى الكلاب! فقال يزيد: إني والله ما أردت أن أودعه بلادكم حتى أودع كلامي آذانكم فإنك كافر بالذي أكرمت هذا له لئن بلغني أنه نبش من قبره أو مثل به لا تركت بأرض العرب نصرانياً إلا قتلته ولا كنيسة إلا هدمتها. فبعث إليه قيصر: أبوك كان أعلم بك فوحق المسيح لأحفظته بيدي سنةً. فلقد بلغني أنه بني على قبره قبة يسرج فيها إلى اليوم.
طلب معاوية البيعة ليزيد أبو الحسن المدائني قال: لما مات زياد وذلك سنة ثلاث وخمسين أظهر معاوية عهداً مفتعلاً فقرأه على الناس فيه عقد الولاية ليزيد بعده وإنما أراد أن يسهل بذلك بيعة يزيد. فلم يزل يروض الناس لبيعته سبع سنين ويشاور ويعطى الأقارب ويداني الأباعد حتى استوثق له من أكثر الناس. فقال لعبد الله بن الزبير: ما ترى في بيعة يزيد قال: يا أمير المؤمنين إني أناديك ولا أناجيك إن أخاك من صدقك فانظر قبل أن تتقدم. وتفكر قبل أن تندم فإن النظر قبل التقدم والتفكر قبل التندم. فضحك معاوية وقال: ثعلب رواغ تعلمت السجع عند الكبر في دون ما سجعت به على ابن أخيك ما يكفيك. ثم التفت إلى الأحنف فقال: ما ترى في بيعة
فلما كانت سنة خمس وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه. فوفد عليه من كل مصر قومُ. وكان فيمن وفد عليه من المدينة محمد بن عمرو بن حزم فخلا به معاوية وقال له: ما ترى في بيعة يزيد فقال: يا أمير المؤمنين ما أصبح اليوم على الأرض أحدٌ هو أحب إلي رشداً من نفسك سوى نفسي وإن يزيد أصبح غنياً في المال وسيطاً في الحسب وإن الله سائل كل راع عن رعيته فاتق الله وانظر مَن تولى أمرَ أمة محمد. فأخذ معاويةَ بَهْر حتى تنفّس الصُعداء وذلك في يوم شات ثم قال: يا محمد إنك امرؤ ناصحٌ قلت برأيك ولم يكن عليك إلا ذاك. ثم قال معاوية: إنه لم يَبق إلا ابني وأبناؤهم فابني أحبّ إليّ من أبنائهم اخرُج عني. ثم جلس معاويةُ في أصحابه وأذن للوفود فدخلوا عليه وقد تقدَّم إلى أصحابه أن يقولوا في يَزيد فكان أوَّلَ من تكلَّم الضحاكُ بن قيس فقال: يا أميرَ المؤمنين إنه لا بُد للناس مِن والٍ بعدك والأنفس يُغْدَى عليها ويًراح. وإن اللّه قال: كُلّ يومٍ هو في شَان. ولا ندري ما يختلف به العصرْان ويزيدُ ابن أمير المؤمنين في حُسن مَعْدِنه وقَصْد سيرته من أفضلنا حِلما وأحكمنا عِلماً فولّه عهدك واجعله لنا عَلماً بعدك. وإنّا قد بَلَونا الجماعةَ والُألفة فوجدناه أحقن للدماء وآمَن للسُّبل وخيراً في العاجلة والآجلة. ثم تكلَّم عمرو بن سَعيد فقال: أيها الناس إن يزيدَ أملٌ تأمُلونه وأجل تأمنونه طويل الباع رَحْب الذراع إذا صِرْتم إلى عَدله وَسِعكم وإِن طلبتم
رِفْده أغناكم جَذَع قارح سُوبق فسَبق ومُوجِد فمَجَد وقُورعِ فقَرع خلف من أمير المؤمنين ولا خَلف منه. فقال: اجلس أبا أمية فلقد أوسعت وأحسنت. ثم قام يزيد بن المُقفّع فقال: أمير المؤمنين هذا وأشار إلى معاوية فإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد فمن أي فهذا وأشار إلى سيفه. فقال معاوية: اجلس فإنك سيّد الخطباء. ثم تكلم الأحنف بن قيس فقال: يا أميرَ المؤمنين أنت أعلم بيزيد في ليله ونهاره وسره وعَلانيته ومَدخله ومَخرجه فإن كنت تَعلمه لله رضا ولهذه الأمة فلا تُشاور الناسَ فيه وإن كنت تعلم منه غيرَ ذلك فلا تُزوّده الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة. قال: فتفرّق الناس ولم يذكروا إلا كلامَ الأحنف. قال: ثم بايع الناسُ ليزيد بن معاوية فقال رجل وقد دُعي إلى البيعة: اللهم إني أعوذ بك من شر معاوية. فقال له معاوية: تَعوذ من شر نفسك فإنه أشدّ عليك وبايعْ. قال: إني أبايع وأنا كاره للبَيعة. قال له معاوية: بايع أيها الرجل فإن الله يقول: " ثم كتب إلى مروان بن الحكم عامِله على المدينة: أن ادْعُ أهلَ المدينة إلى بيَعة يزيد فإن أهل الشام والعِراق قد بايعوا. فخطبهم مروان فحضّهم على الطاعة وحَذّرهم الفِتنة ودعاهم إلى بيَعة يزيد وقال: سُنه أبي بكر الهادية المهْديَة. فقال له عبدُ الرحمن بن أبي بكر: كذبْتَ! إن أبا بكر ترك الأهل والعشيرة وبايع لرجل من بني عَدي رضي دينَه وأمانته واختاره لُأمة محمد صلى الله عليه
وسلم. فقال مروان: أيها الناس إن هذا المُتكلم هو الذي أنزل اللّه فيه: " فقال له عبدُ الرحمن: يا بن الزرقاء أفينا تتأوَل القرآن! وتكلّم الحُسين بن علي وعبدُ الله بن الزبير وعبدُ الله بن عمرَ وأنكروا بيعةَ يزيد وتفرّق الناس. فكتب مروان إلى معاوية بذلك. فخرج معاويةُ إلى المدينة في ألف فلما قَرُب منها تلقَاه الناس فلما نظر إلى الحُسين قال: مرحباً بسيّد شباب المسلمين قرّبوا دابّةً لأبي عبد اللهّ. وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر: مرحبَاَ بشيخ قريش وسيّدها وابن الصدّيق. وقال لابن عمر: مرحباً بصاحب رسول الله وابن الفاروق. وقال لابن الزُبير: مرِحباً بابن حواريّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وابن عمته ودعا لهم بدواب فَحملهم عليها. وخرج حتى أتى مكة فقضى حَجَّه ولما أراد الشُّخوص أمر بأثقاله فقدِّمت وأمر بالمِنبر فقرب من الكعبة وأرسل إلى الحُسين وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن الزُبير فاجتمعوا. وقالوا لابن الزبير: اكفنا كلامه فقال: علَى أن لا تُخالفوني. قالوا: لك ذلك ثم أتوا معاويةَ فرحّب بهم وقال لهم: قد علمتم نَظري لكم وتَعطُّفي عليكم وصِلتي أرحامَكم ويزيدُ أخوكم وابنُ عَمكم وإنما أردتُ أن أُقدمه باسم الخلافة وتكونوا أنتم تأمرِون وتَنْهون. فسكتوا وتكلّم ابنُ الزبير فقال: نخيرك بينِ إحدى ثلاث أيّها أخذت فهي لك رغبة وفيها خِيار: فإن شئت فاصنع فينا ما صنع رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم قَبضه الله ولم يَسْتخلف فدع هذا الأمرَ حتى يختارَ الناسُ لأنفسهم وإن شئت فما صنع أبو بكر عَهد إلى رجل من قاصية قُريش وتَرك مِن ولده ومن رهطه الأدْنين مَن كان لها أهلاً وإن شئت فما صَنع عمر صيرها إلى ستة نفر من قُريش يختارون رجلاً منهم وترك ولده وأهلَ بيته وفيهم من لو وَليها لكان لها أهلَاَ. قال معاوية: هل غيرُ هذا قال: لا. ثم قال للآخرين: ما عندكم قالوا: نحن على ما قال ابنُ الزبير. فقال معاوية: إني أتقدّم إليكم وقد أعذر من أنذر إني قائل مقالة فأُقسم باللهّ لئن رَدّ عليً رجلٌ منكم كلمة في مَقامي هذا لا تَرْجع إليه كَلِمته حتى يُضرب رأسُه فلا ينظر امرؤ منكم إلا إلى نفسه ولا يُبقى إلا عليها. وأمر أن يقوم على رأس كُلِّ رجل منهم رجلاًن بسَيفيْهما فإن تكّلَم بكلمة يَرُدّ بها عليه قولَه قتلاه. وخرج وأخرجهم معه حتى رَقي المِنبر وحَفّ به أهل الشام واجتمع الناسُ فقال بعد حمد اللّه والثناء عليه: إنا وجدنا أحاديث الناس ذاتَ عَوار قالوا: إن حًسيناً وابن أبي بكر وابن عمرِ وابن الزّبير لم يُبايعوا ليزيد وهؤلاء الرهط سادةُ المسلمين وخيارُهم لا نبرم أمراً دونهم ولا نقضي أمراً إلا عن مشورتهم وإني دعوتُهم فوجدتهم سامعين مُطيعين فبايعوا وسَلّموا وأطاعوا. فقال أهلُ الشام: وما يَعْظُم من أمر هؤلاء ائذن لنا فنضربَ أعناقهم لا نرضى حتى يُبايعوا علانيةً! فقال معاوية: سبحان اللهّ! ما أسرعَ الناسَ إلى قُريش بالشرّ
وأحلى دماءَهم عندهم! أنصتوا فلا أسمع هذه المقالة من أحد. ودعا الناسَ إلى البيعة فبايعوا. ثم قربت رواحله فركب ومضى. فقال الناس للحُسين وأصحابه: قلتم: لا نُبايع فلما دُعيتم وأُرضيتم بايعتم! قالوا لم نَفعل. قالوا: بلى قد فعلتم وبايعتم أفلا أنكرتم! قالوا: خِفنا القتل وكادكم بنا وكادنا بكم.
وفاة معاوية عن الهيثم بن عديّ قال: لما حَضرت معاويةَ الوفاةُ ويزيدُ غائب دعا الضحاكَ بن قيس الفِهريَّ ومُسلم بن عُقبة المُرّيِّ فقال: أبلغا عنّي يزيد وقُولا له: انظُر إلى أهل الحِجاز فهم أصلُك وعِتْرتك فمن أتاك منهم فأكرمه ومَن قَعد عنك فتعاهدْه. وانظر أهلَ العراق فإن سألوك عَزْل عامل في كل يوم فاعْزِله فإنّ عَزْلَ عامل واحد أهونُ من سَلِّ مائة ألف سيف ولا تَدري على من تكون الدائرة ثم انظر إلى أهل الشام فاجعلهم الشِّعار دون الدَثار فإن رابك من عدوّك رَيْب فارمه بهم ثم اردُد أهلَ الشام إلى بَلدهم ولا يُقيموا في غيره فيتأدّبوا بغير أدبهم. لستُ أخاف عليك إلا ثلاثة: الحُسينَ بن عليّ وعبدَ الله بن الزّبير وعبدَ اللّه بن عمر. فأما الحُسين بن عليّ فأرجو أن يَكفيكه اللّه فإنه قَتل أباه وخَذل أخاه وأما ابنُ الزُبير فإنه خَبّ ضَبّ وإن
ظَفرت به فقَطِّعه إرْباً إرْباً وأما ابنُ عمر فإنه رجل قد وَقذه الورع فخل بينه وبين آخرته يُخل بينك وبين دُنياك. ثم أخرج إلى يزيدَ بريداً بكتاب يَستقدمه ويستحثّه. فخرج مُسرعاً.
فتلقاه يزيد فأخبره بموت مُعاوية فقال يزيد: جاء البريدُ بقرطاس يَخُبّ به فأوجَس القلبُ من قرطاسه فَزَعَا قُلنا لك الويلُ ماذا في صَحيفتكم قالوا الخليفةُ أمسى مُثْبَتاً وَجِعا فمادت الأرضُ أو كادت تَميد بنا كأنّ أغبرَ من أركانها انقلعا ثم انبعَثنا إلى خوصٍ مُزممة نرمي العَجاج بها ما نأتلي سرعا فما نُبالي إذا بَلغْن أرْحُلَنا ما مات منهن بالمَوْماة أو ظَلعا أوْدَى ابنُ هِنْد وأودَى المجدُ يَتْبعه كذاك كُنا جميعاً قاطنين معا أغرّ أبلجُ يستسقى الغمام به لو قارع الناسَ عن أحلامهم قَرعا ا يَرقع الناس ما أوهى ولو جَهدوا أن يَرْقعوه ولا يُوهون ما رَقَعا قال محمدُ بن عبد الحكم: قال الشافعيْ: سَرق هذين البيتين من الأعشى. ابن دأب قال: لما هَلك معاويةُ خَرج الضحاكُ بن قيس الفِهْريّ وعلى عاتقه ثيابَ حتى وقف إلى جانب المِنبر ثم قال: أيها الناس إن معاوية كان إلْف العرب ومَلِكَها أطفأ اللهّ به الفِتْنة وأحيا به السُّنة وهذه
أكفانه ونحن مدْرجوه فيها ومخُلون بينه وبين ربه فمن أراد حُضوره صلاة الظُهر فَلْيَحْضُره.
وصلّى عليه الضحاك بن قيس الفِهْرِيّ. ثم قدم يزيدُ من يومه ذلك فلم يَقْدَم أحدٌ على تَعْزيته حتى دخل عليه عبدُ الله بن هَمّام السَّلولي فقال: اصْبر يزيدُ فقد فارقتَ ذا مقَةٍ واشكُر حِباء الذي بالمُلك حَاباكا لا رُزْءَ أعظمُ في الأقوام قد عَلموا مما رُزئت ولا عُقْبى كعُقباكا أصبحتَ راعيَ أهل الأرض كُلًهمُ فأنتَ ترعاهمُ واللّه يرَعاكا وفي مُعاويةَ الباقي لنا خلفٌ إذا بَقيتَ فلا نَسْمع بمنَعاكا فافتتح الخُطباء الكلام. ثم دخل يزيد فأقام ثلاثةَ أيام لا يخرج للناس ثم خرج وعليه أثرُ الحزن فَصعِد المِنبر وأقبل الضحَّاك فجلس إلى جانب المنبر وخاف عليه الحَصرَ. فقال له يزيد: يا ضحاك أجئتَ تعلم بني عبد شمس الكلام! ثم قام خطيباً فقال: الحمدُ للّه الذي ما شاء صَنع مَن شاء أعطى ومَن شاء مَنع ومَن شاء خَفض ومن شاء رَفع. إنّ مُعاوية بن أبي سُفيان كان حَبلاً من حبال اللّه مدّه اللّه ما شاء أن يَمُدّه ثم قَطعه حين شاء أن يقطعه فكان دون مَن قَبله وخيراً ممن يأتي بعده ولا أزكيه وقد صار إلى ربّه فإن يَعفُ عنه فبِرَحْمته وإن يُعذبه فبِذَنبه. وقد وَليتُ بعده الأمرَ ولستُ أعتذر من جهل ولا أنِي عن طلب وعلى
خلافة يزيد بن معاوية ونسبه وصفته هو يزيد بن مُعاوية بن أبي سُفيان بن حَرب بن أُمية بن عبد شَمس بن عبد مناف. وأُمه مَيْسون بنت بَحْدل بن أُنيف بنِ دلجة بنِ قُنافة أحد بني حارثة بن جَناب. وكنيته أبو خالد وكان آدمَ جعداً مَهْضوماً أحورَ العين بوجهه آثار جُدريّ حسنَ الِّلحية خَفِيفَها وَلي الخلافة في رجب سنة ستين ومات في النِّصف من شهر ربيع الأول سنة أربع وستّين ودُفن بحُوَارين خارجاً من المدينة. وكانت ولايته أربع سنين وأياماً. وكان على شرُطته حُميد بن حُرَيث بن بَحْدل. وكاتبه وصاحب أمره سرجون بن منصور. وعلى القضاء أبو إدريس الخَوْلاني. وعلى الخراج مَسلمة بن حديدة الأزْدي.
أولاد يزيد: معاوية وخالد وأبو سُفيان وأمهم فاختةُ بنت بي هاشم بن عُتبة بن ربيعة وعبدُ الله وعمرو أمهما أم كلثوم بنت عبد اللّه بن عبّاس. وكان عبدُ اللّه ولدُه ناسكاً وولدُه خالد عالماً لم يكن في بني أمية أزهدَ من هذا ولا أعلم من هذا. الأصمعي عن أبي عمرو قال: أعرق الناس في الخلافة عاتكة بنت يزيد ابن معاوية بن أبي سفيان أبوها خليفة وجدّها معاوية خليفة وأخوها مُعاوية بن يزيد خليفة وزوجها عبدُ الملك بن مروان خليفة وأرِباؤها: الوليدُ
مقتل الحسين بن علي علِيّ بن عبد العزيز قال: قرأ عليّ أبو عُبيد القاسم بن سلّام وأنا أسمع فسألتُه: نروي عنك كما قُرىء عليك قال: نعم. قال أبو عُبيد: لما مات مُعاوية بن أبي سفيان وجاءت وفاتُه إلى المدينة وعليها يومئذ الوليدُ بن عُتبة فأرسل إلى الحُسين بن عليّ وعبدِ اللّه بن الزُّبير فدعاهما إلى البيعة ليزيد فقالا: بالغد إن شاء الله على رؤوس الناس وخرجا من عنده. فدعا الحسينُ برواحله فركبها وتوجّه نحو مكة على المَنهج الأكبر وركب ابنُ الزبير بِرْذونا له وأخذ طريق العَرْج حتى قدم مكة. ومرّ حسينُ حتى أتى على عبد اللّه بن مُطيع وهو على بئر له فنزل عليه فقال للحسين: يا أبا عبد اللّه لا سَقانا اللهّ بعدَك ماءً طيباً أين تريد قال: العراق. قال: سبحان اللّه! لمَ قال: مات معاويةُ وجاءني أكثرُ من حِمْل صُحف. قال: لا تفعل أبا عبد اللهّ فواللّه ما حَفظوا أباك وكان خيراً منك فكيف يِحفظونك ووالله لئن قُتلت لا بَقيتْ حُرْمة بعدك إلا استُحّلت. فخرج حسين حتى قَدِم مكة فأقام بها هو وابنُ الزبير. قال: فقدم عمرو بنُ سعيد في رمضان أميراً على المدينة والموسم وعُزل الوليد بن عُتبة. فلما استوى على المنبر رَعَف. فقال أعرابيّ: مه! جاءنا واللهّ بالدم! قال: فتلقّاه رجل بعمامته. فقال: مه! عًمّ الناسَ
والله! ثم قام فخطب فناولوه عصاً لها شُعبتان. فقال: تشعَّب الناسُ واللّه! ثم خرج إلى مكة فقَدِمها قبل يوم التَّروية بيوم ووفدت الناسُ للحُسين يقولون: يا أبا عبد اللّه لو تقدَّمت فصلّيت بالناس فأنزلتَهم بدارك إذ جاء المؤذّن فأقام الصلاة فتقدّم عمرو بن سعيد فكَبّر فقيل للحُسين: اخرج أبا عبد اللّه إذ أبيت أن تتقدّم. فقال: الصلاة في الجماعة أفضل. قال: فصلّى ثم خرج. فلما انصرف عمرو بنُ سعيد بلغه أن حُسيناً قد خرج. فقال: اطلبوه اركبوا كل بعير بين السماء والأرض فاطلُبوه. قال: فعجب الناسُ من قوله هذا فطلبوه فلم يُدركوه. وأرسل عبدُ اللّه بن جعفر ابنيه عوناً ومحمداً ليردّا حُسينا. فأبى حُسين أن يرجع. وخرج ابنا عبد اللّه بن جعفر معه. ورجع عمرو بنُ سعيد إلى المدينة وأرسل إلى ابن الزبير ليأتيَه فأبى أن يأتيَه.
وامتنع ابنُ الزبير برجال من قُريشٍ وغيرهم من أهل مكة. قال: فأرسلَ عمرو بنُ سعيد لهم جيشاً من المدينة وأمًر عليهم عمرو بنَ الزبير أخا عبد الله بن الزبير وضَرب على أهل الديوان البَعْث إلى مكة وهم كارهون للخروج فقال: إما أنْ تأتوني بأدلاَء وإما أن تَخرجوا. قال: فبعثهم إلى مكة فقاتلوا ابن الزبير فانهزم عمرو بنُ الزبير وأسره أخوه عبدُ اللّه فحبَسه في السجن. وقد كان بَعَث الحُسين بن عليّ مسلمَ بن عَقيل بن أبي طالب إلى أهل الكوفة ليأخذ بَيعتهم وكان على الكوفة حين مات معاوية فقال: يا أهل الكوفة ابن بنت رسول اللّه صلى
الله عليه وسلم أحبّ إلينا من ابن بنت بحَدل. قال: فبلِغ ذلك يزيدَ فقال: يا أهل الشام أشيروا عليّ مَن استعمل على الكوفة فقالوا: ترضى من رَضي به معاويةُ قال: نعم. قيل له: فإنّ الصكّ بإمارة عُبيد اللّه بن زياد على العراقين قد كُتب في الديوان فاستَعْمِلْه على الكوفة.
فقَدِمها قبل أن يَقْدم حُسين. وبايع مُسلمَ بن عَقيل أكثرُ من ثلاثين ألفاً من أهل الكوفة وخرجوا معه يريدون عُبيدَ اللّه بن زياد فجعلوا كلما انتهوا إلى زُقاق انسلّ منهم ناس حتى بقي في شرذمة قليلة. قال: فجعل الناسُ يَرْمونه بالآجُر من فوق البيوت. فلما رأى ذلك دَخل دار هانىء بن عُروة المُراديِّ وكان له شَرَف ورأي فقال له هانيء: إنَ لي من ابن زياد مكاناً وإني سوف أتمارض فإذا جاء يَعودني فاضْرِب عنقه. قال: فبلغ ابنَ زياد أن هانيء بن عُروة مريضٌ يقيء الدم وكان شرَب المَغْرة فجعل يَقيؤها فجاءه ابنُ زياد يعوده. وقال هانيء: لا قلت لكم: اسقوني فاخرُج إليه فاضرب عنقه يقولها لمُسلم ابن عقيل. فلما دخل ابنُ زياد وجلس قال هانيء: اسقوني فَتثبّطوا عليه. فقال: ويحكم! اسقوني ولو كان فيه نفسي. قال: فخرج ابنُ زياد ولم يَصنع الآخر شيئاً. قال: وكان أشجعَ الناس ولكن أُخذ بقَلْبه. وقيل لابن زياد ما أراده هانيء فأرسل إليه. فقال: إني شاكٍ لا أستطيع. فقال: أئتوني به وإن كان شاكياً.
فأُسرجت له دابة فركب ومعه عصا وكان أعرج فجعل يسير قليلاً قليلاً ثم يقف ويقول: ما
أذهبُ إلى ابن زياد حتى دخل على ابن زياد فقال له: يا هانيء أما كانت يدُ زياد عندك بيضاء قال: بلى. قال: ويدي قال: بلى. ثم قال له هانيء: قد كانت لك عندي ولأبيك وقد أمنْتُك في نفسي ومالي. قال: اخرج فخرج. فتناول العصا من يده وضرب بها وجهه حتى كَسرها ثم قَدّمه فضرب عُنقه. وأُرسل إلى مُسلم بن عَقيل فخرج إليهم بسيفه فما زال يقاتلهم حتى أثْخنوه بالجراح فأسروه. وأُتي به ابنَ زياد فقدّمه ليضرب عنقَه فقالت له: دَعْني حتى أُوصي فقال له: أَوْص. فنظر في وجوه الناس فقالت لعمر بن سعد: ما أرى قرشيّاً هنا غيرَك فادْن مني حتى أُكَلِّمَك. فدنا منه فقال له: هل لك أن تكون سيّد قريش ما كانت قريش إنّ حُسيناً ومَن معه وهم تِسْعون إنساناً ما بين رجل وامرأة في الطريق فاردُدهم واكتب لهم ما أصابني ثم ضُرب عنقه. فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال لي قال: اكتُم على ابن عمك. قال: هوِ أعظم من ذلك. قال: وما هو قال: قال لي: إنّ حُسينا أقبل وهم تسعون إنساناَ ما بين رجل وامرأة فاردُدهم واكتُب إليه بما أصابني. فقال له ابنُ زياد: أما واللّه إذ دَللتَ عليه لا يُقاتله أحد غيرك. قال: فبعث معه جَيْشاً وقد جاء حسيناً الخبرُ وهم بشَرَاف فهمّ بأن يرجعِ ومعه خمسةٌ من بني عَقيل فقالوا: تَرجع وقد قُتل أخونا وقد جاءك من الكُتب ما نثق به! فقال الحسينُ لبعض أَصحابه: واللّه مالي على هؤلاء من صَبر. قال: فلقيه
الجيشُ على خُيولهم وقد نزلوا بكَرْبلاء. فقال حسين: أي أرض هذه قالوا: كَرْبلاء قال: أرض كَرْب وبلاء. وأحاطت بهم الخَيل. فقال الحُسين لعمر بن سعد: يا عمر اختر منّي إحدى ثلاث خِصال: إما أن تتركني أرجع كما جئتُ وإما أن تُسيِّرني إلى يزيد فأضع يدي في يده وإمّا أن تسيرني إلى الترك أقاتلهم حتى أموت. فأرسل إلى ابن زياد بذلك فهمّ أن يُسيره إلى يزيد. فقال له شَمِر بن ذي الجَوْشن: أمكنك اللّه من عدوّك فتسيّره! إلّا أن ينزل في حُكمك. فأرسل إليه بذلك. فقال الحسين: أنا أنزل على حُكم ابن مَرْجانة! والله لا أفعل ذلك أبداً. قال: وأبطأ عمر عن قِتاله. فأرسل ابنُ زياد إلى شَمِر بن ذي الجَوشن وقال له: إن تقدّم عمر وقاتَل وإلا فاتركه وكُن مكانه. قال: وكان مع عمر بن سعد ثلاثون رجلاً من أهل الكوفة فقالوا: يَعرض عليكم ابنُ بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثَ خصال فلا تَقْبلون منها شيئاً! فتحَولوا مع الحُسين فقاتلوا. ورأى رجل من أهل الشام عبد الله بن حسن بن عليّ وكان من أجمل الناس فقال: لأقتلن هذا الفتى. فقال له رجل: ويحك! ما تصنع به دعه. فأبى وحمل عليه فضرَبه بالسيف فقتله فلما أصابته الضربة قال: يا عمّاه قال: لبّيك صوتاً قَل ناصرُه وكَثر واتره.
وحمل الحُسين على قاتله فقطع يَده ثم ضَربه ضربةً أخري فقَتله ثم اقتتلوا. عليّ بن عبد العزيز قال: حدّثني الزبير قال حدّثني محمد بن الحسن قال: لما نَزل عمر بنُ سعد بالحُسين وأيقن أنهم
قاتلوه قام في أصحابه خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد نَزل بي ما تَرَوْن من الأمر وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفُها واشمعلّت فلم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء الأخْنس عيش كالمرْعى الوبيل. ألا تَرون الحقّ لا يُعمل به والباطلَ لا يُنهى عنه لِيرغب المؤمنُ في لقاء اللّه فإني لا أرى الموتَ إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا ذُلا ونَدَما. قُتل الحسينُ رضي اللّه عنه يوم الجمعة يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بالطف من شاطىء الفرات بموضع يدعى كَربلاء. وولد لخمس ليالٍ من شعبان سن أربع من الهِجرة. وقُتِل وهو ابن سِتٍّ وخمسين سنة وهو صابغٌ بالسواد قَتله سِنان بن أبي أنس وأجهز عليه خولةُ بن يزيد الأصْبحِي من حِمْير. وحَز رأسه وأتى به عُبيد الله وهو يقول: أوْقِر رِكابي فِضّةً وذَهبَا أنا قتلتُ المَلِك المُحجّبَا خيرَ عباد اللهّ أمّا وأبَا فقال له عبيدُ الله بن زياد: إذا كان خير الناس أمَّا وأبَا وخير عباد اللهّ فلِمَ قتلتَه قَدّموه فاضربوا عنقه فضُربت عنقه. رَوْح بن زِنْباع عن أبيه عن الغاز بن ربيع الجُرشي قال: إني لعند يزيدَ ابن معاوية إذا أقبل زَحْر بن قيس الجُعفي حتى وقف بين يَدَي يزيد فقال: ما وراءك يا زَحرِ! فقال: أبشرّك يا أمير المؤمنين بفَتح الله ونَصره قَدِم علينا الحُسين في سبعةَ عشرَ رجلاً
من أهل بيته وستين رجلاً من شيعته فبَرزنا إليهم وسألناهم أن يَسْتسلموا وينزلوا على حُكم الأمير أو القتال فأبوا إلا القتال فغدونا عليهم مع شُروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتى أخذت السيوفُ مأخَذَها من هام الرجال فجَعلوا يلوذون منّا بالآكام والحُفر كما يلوذ الحَمام من الصَقر فلم يكنَ إِلا نَحر جَزور أو قَوم قائم حتى أتينا على أخرهم فهاتيك أجسامَهم مُجزَّرة وهامَهم مُرمَلة وخدودَهم مُعفَّرة تَصهرُهمِ الشمس وتَسفي عليهم الريحُ بقاع سَبْسب زوارهم العِقْبان والرخم. قال: فَدمعت عينا يزيد وقال: لقد كنت أقنع من طاعتكم بدون قتل الحُسين لعن اللهّ ابنَ سُمية! أما واللّه لو كنتُ صاحبَه لتركتُه رحم اللّه أبا عبد اللّه وغَفر له. عليّ بن عبد العزيز عن محمد بن الضحّاك بن عثمان الخُزاعي عن أبيه قال: خرج الحسين إلى الكوفة ساخطاً لولاية يزيدَ بن معاوية. فكتب يزيدُ إلى عُبيد اللهّ بن زياد وهو واليه بالعراق: إنه بلغني أن حُسيناً سار إلى الكوفة وقد ابتُلي به زمانُك بين الأزمان وبلدُك بين البلدان وابتليت به من بين العُمال وعنده تُعتق أو تعود عبدا. فقتله عبيدُ اللّه وبعث برأسه وثَقَله إلى يزيد. فلما وُضع الرأسُ بين يديه تمثّل بقول حُصين بن الحُمام المُرِّي: نُفلِّق هامًا من رجال أعزّةٍ علينا وهم كانوا أعق وأظْلمَا فقال له عليّ بن الحُسين وكان في السبْي: كتابُ الله أولى بك من الشِّعر يقول اللّه: " فغضب يزيدُ وجعل يَعبث بلِحْيته ثم قال: غيرُ هذا من كتاب اللّه أولى بك وبأبيك قال اللهّ: " ما ترون يا أهل الشام في هؤلاء فقال له رجل منهم: لا تَتخذ من كَلْب سَوْء جَرْوا. قال النعمان بن بَشير الأنصاريّ: انظُر ما كان يَصنعه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بهم لو رآهم في هذه الحالة فاصْنعه بهم. قال: صدقت خَلّوا عنهم واضربوا عليهم القِباب. وأمال عليهمِ المَطبخ وكساهم وأخرج إليهم جوائزَ كثيرة. وقال: لو كان بين ابن مَرجانة وبينهم نسب ما قَتلهم. ثم رَدّهم إلى المدينة. الرٍّياشي قال: أخبرني محمّد بن أبي رَجاء قال: أخبرني أبو مَعشر عن يزيدَ ابن زياد عن محمد بن الحُسين بن عليّ بن أبي طالب قال: أتي بنا يزيدُ بن معاوية بعدما قُتل الحسين ونحن اثنا عشر غُلاما وكان أكبَرنا يومئذ عليُّ ابن الحُسين فأدْخِلْنا عليه وكان كل واحد منا مَغلولةً يدُه إلى عُنقه فقال لنا: أحرزتْ أنفسَكم عَبيدُ أهل العراق! وما علمتُ بخروج أبي عبد اللّه ولا بقَتْله. أبو الحسن المدائني عن إسحاق عن إسماعيل بن سُفيان عن أبي موسى عن الحَسن البصري قال: قتِل مع الحسين ستةَ عشرَ من أهل بيته. واللّه ما كان على الأرض يومئذ أهلُ بيت يُشبّهون بهم.
وحَمل أهلُ الشام بناتِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سبايَا على أحقاب الإبل. فلما أدخلن على يزيد قالت فاطمةُ بنت الحُسين: يا يزيد أبناتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سبايا! قال: بلى حرائر كرام ادخُلي على بنات عمك تجديهنّ قد فَعلن ما فعلتِ. قالت فاطمة: فدخلتُ إليهن فما وجدت فيهن سِفيانيّة إلا مُلْتدمة تبكي. وقالت بنت عقيل بن أبي طالب تَرثِي الحُسين ومن أصيب معه: عَيْني ابكي بعَبْرةٍ وعَويل واندُبي إن ندبتِ آل الرَّسولِ ستة كُلّهم لصُلْبِ علّي قد أصيبوا وخَمسة لعَقيل ومن حديث أم سَلمة زوج صلى الله عليه وسلم قالت: كان عندي النبيّ على ومعي الحُسين فدنا من النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخذتُه فبكى فتركتُه فدنا منه فأخذتُه فبكى فتركتُه.
فقال له جبريل: أتحبه يا محمد قال: نعم. قال: أمَا إن أمتك ستَقتله وإن شئت أريتُك من تُربة الأرض التي يُقتل بها. فبسط جناحَه فأراه منها. فبكى النبي صلى الله عليه وسلم. محمدُ بن خالد قال: قال إبراهيم النَخَعي: لو كنتُ فيمن قَتل الحسينَ ودخلتُ الجنة لاستحييتُ أن أنظُر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ابن لَهيعة عن أبي الأسود قال: لقيتُ رأسَ الجالوت فقال: إن بيني وبين داود سبعين أبا وإن اليهود إذا رأوني عظَموني وعَرفوا حقَي وأوجبوا
حِفْظي وإنه ليس بينكم وبين نبيّكم إلا أبٌ واحد قتلتم ابنه. ابن عبد الوهاب عن يَسار بن عبد الحكم قال: انتُهب عسكَرُ الحسين فوُجد فيه طِيب فما تطيّبت به امرأة إلا بَرِصت. جعفر بن محمد عن أبيه قال: بايع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الحسنُ والحسين وعبد اللهّ بن جعفر وهم صغار ولم يُبايع قطُّ صغيرٌ إلا هم. عليُ بن عبد العزيزِ عن الزُّبير عن مُصعب بن عبد اللّه قال: حَجِّ الحُسين خمسةً وعشرين حِجَّة مُلبِّياً ماشياً. وقيل لعلّي بن الحسين: ما كان أقلً ولدِ أبيك! قال: العَجب كيف وُلدتُ له كان يصلِّي في اليوم والليلة ألْفَ ركعة فمتى كان يتفرّغ للنساء. يحيى بن إسماعيل عن الشَعبي أنّ سالما قال: قيل لأبي: عبدِ اللّه بن عمر: إن الحُسين توجه إلى العراق فلحقه على ثلاث مراحل من المدينة وكان غائباً عند خروجه فقال أين تريد فقال: أريد العراق وأخرج إليه كُتب القوم ثم قال: هذه بيعتهم وكُتبهم. فناشده اللّه أن يرجع فأبى. فقال: أحدثك بحديث ما حَدَّثتُ به أحداً قبلك: إنّ جبريل أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يُخيّره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة وإنكم بِضعة منه فواللّه لا يليها أحد من أهل بيته أبداً وما صَرفها اللّه عنكم إلا لما هو خيرٌ لكم فارجع فأنت تَعرف غدر أهل العراق وما كان يَلقى أبوك منهم. فأبى فاعتنقه وقال: استودعتك اللّهَ من قَتيل. وقالت الفرزذق: خرجتُ أريد مكةَ فإذا بقِباب مضروبة وفَساطيط فقلت: لمن هذه قالوا:
للحُسين فعدلتُ إليه فسلّمت عليه فقالت: من أين أقبلتَ قلت: من العراق. قال: كيف تركت الناس قلتُ: القلوب معك والسيوف عليك والنَصر من السماء.
تسمية من قتل مع الحسين بن علي رضي الله عنهما من أهل بيته ومن أسر منهم قال أبو عبيد: حدَّثنا حجاج عن أبي مَعشر قال: قتل الحُسين بن عليِّ وقتل معه عثمان بن عليّ وأبو بكر بن عليّ وجعفر بن عليّ والعباس بن علي وكانت أمهم أمٌ البنين بنت حَرام الكِلابيّة وإبراهيم بن عليّ لأم ولد له وعبدُ الله بن حسن وخمسةٌ من بني عَقِيل بن أبي طالب وعَوْن ومحمد ابنا عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب وثلاثة من بني هاشم. فجميعهم سبعةَ عشر رجلاً. وأسر اثنا عشر غُلاماً من بنى هاشم فيهم: محمدُ بن الحُسين وعلي بن الحُسين وفاطمةُ بنت الحسين. فلم تَقم لبني حَرب قائمة حتى سَلَبهم الله مُلكَهم. وكَتب عبدُ الملك بن مروان إلى الحجَّاج بن يوسف: جنِّبْني دماء أهل هذا البيت فإني رأيت بني حَرب سُلبوا مُلْكهم لما قتلوا الحُسين.
حديث الزهري في قتل الحسين رضي الله عنه حدَّثنا أبو محمد عبد الله بن مَيسرة قال: حدَثنا محمد بن مُوسى الحَرَشيّ قال: حدَّثنا حمَاد بن عيسى الجُهني عن عمر بن قيس قال: سمعتُ ابن شهاب الزُهري يُحدِّث عن
سعيد بن المُسَيِّب عن أبي هُريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال حمَاد بن عيسى: وحدَّثني به عبّاد بن بِشرْ عن عَقيل عن الزُّهري عن سَعيد بن المسيّب عن أبي هُريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لا يُلدغ المؤمن من جُحر مرّتين. وقالا: قال الزهري: خرجتُ مع قُتيبة أريد المَصيصة فقَدِمنا على أمير المُؤمنين عبد الملك بن مروان وإذا هو قاعد في إيوان له وإذا سماطان من الناس على باب الإيوان فإذا أراد حاجةً قالها للذي يَليه حتى تَبْلغ المسألة بابَ الإيوان ولا يمشي أحدٌ بين السماطين. قال الزُّهري: فجئنا فقمنا على باب الإيوان فقال عبدُ الملك للذي عن يمينه: هل بَلغكم أي شيء أصبحَ في بيت المقدس ليلة قُتل الحسين بن عليّ قال: فسأل كل واحد منهما صاحبَه حتى بلغت المسألةُ البابَ فلم يَردّ أحدٌ فيها شيئاً. قال الزًهري: فقلت: عندي في هذا عِلْم. قال: فرجعت المسألةُ رجلاً عن رجل حتى انتهت إلى عبد الملك. قال: فدُعيتُ فمشيتُ بين السماطين فلما انتهيتُ إلى عبد الملك سَلّمت عليه.
فقال لي: من أنت قلت: أنا محمد بن مسلمٍ بن عُبيد اللّه بن شهاب الزُّهري. قال: فعرِّفني بالنَّسب وكان عبدُ الملك طلّابة للحديث فعرّفتُه. فقال: ما أصبح ببيت المَقدس يوم قُتل الحُسين بن عليّ بن أبي طالب - وفي رواية عليّ بن عبد العزيز عن إبراهيم بن عبد اللّه عن أبي مَعشر عن محمد بن عبد اللّه ابن سعيد بن العاص عن الزُّهري أنه قال: الليلةَ التي قُتل في
صبيحتها الحُسين بن عليّ قال الزُّهري: نعم حدَّثني فلان - ولم يُسَمِّه لنا - أنه لم يُرفع تلك الليلة التي صبيحتها قُتل الحسين بن علي بن أبي طالب حجرٌ في بيت المقدس إلا وُجد تحته دمٌ عَبيط. قال عبدُ الملك: صدقتَ حدَّثني الذي حدَّثك وإني وإياك في هذا الحديث لَغريبان.
ثم قال لي: ما جاء بك قلت: جئتُ مُرابطاً. قال: الزم الباب فأقمتُ عنده فأعطاني مالاً كثيراً. قال: فاستأذنتُه في الخروج إلى المدينة فأذِن لي ومعي غلامٌ لي ومعي مالٌ كثير في عَيبة ففقدتُ العَيبة فاتهمتُ الغلام فوعدتُه وتواعدتُه فلم يُقر لي بشيء. قال: فصرعتُه وقعدتُ عَلَى صَدْره ووضعتُ مِرْفقي على وجهه وغمزتُه غمزةً وأنا لا أريد قتلَه فمات تحتي وسُقط في يدي. وقَدِمتُ المدينة فسألت سعيدَ بن المُسيّب وأبا عبد الرحمن وعُروة بن الزُّبير والقاسمَ بن محمد وسالِم بن عبد اللّه فكلُّهم قال: لا نعلم لك توبةً. فبلغ ذلك عليَّ بن الحُسين فقال: عليَ به. فأتيتُه فقصصتُ عليه القِصة. فقال: إن لذنبك توبةَ صُمْ شهرين مُتتابعين وأعتق رَقبة مُؤْمنة وأطعم ستين مسكيناً ففعلتُ. ثم خرجتُ أريد عبد الملك وقد بلغه أني أتلفتُ المال فأقمتُ ببابه أياماً لا يُؤذن لي بالدُّخول فجلستُ إلى مُعلِّم لولده وقد حَذِق ابنَ لعبد الملك عنده وهو يُعلمه ما يتكلّم به بين يدي أمير المؤمنين إذا دخل عليه فقلت لمؤدّبه: ما تأمُل من أمير المؤمنين أن يَصلك
به فلك عندي ذلك على أن تُكلِّم الصبيّ إذا دخل عَلَى أمير المؤمنين فإذا قالَ له: سَل حاجتكَ يقول له: حاجتي أن تَرضى عن الزهري. ففَعل فضحك عبدُ الملك وقال: أين هو قال: بالباب. فأذن لي فدخلت حتى إذا صرتُ بين يديه قلت: يا أمير المؤمنين حَدَّثني سعيدُ بن المسيّب عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يُلدغ المؤمن من جُحر مرتين.
وقعة الحرة أبو اليقظان قال: لما حضرة معاويةَ الوفاةُ دعا يزيدَ فقال له: إن لك من أهل المدينة يوماً فإذا فعلوا فارمهم بمُسلم بن عُقبة فإنه رجل قد عرَفْنا نصيحتَه. فلما كانت سنة ثلاث وستين قدم عثمانُ بن محمد بن أبي سُفيان المدينةَ عاملاً عليها ليزيدَ بن معاوية وأوفد على يزيد وفداً من رجال المدينة فيهم عبدُ اللّه بن حَنْظلة غَسيل الملائكة معه ثمانيةُ بنين له فأعطاه مائةَ ألف درهم وأعطى بنيه كل رجل منهم عشرةَ آلاف سوى كُسوتهم وحُملانهم. فلما قدم عبدُ اللّه بن حنظلة المدينة أتاه الناس فقالوا: ما وراءك قال: أتيتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم. قالوا: فإنه قد بلغنا أنه أكرمك وأجازك وأعطاك. قال: قد فَعل وما قبلتُ ذلك منه إلا أن أتقوّى به عليه أي عَلَى قتال يزيد - وحضَّ الناسَ عَلَى يزيدَ فأجابوه.
فكتب عثمانُ بن محمد إلى يزيد بما أجمع عليه أهلُ المدينة من الخلاف. فكتب إليهم يزيد بن معاوية: بسم اللهّ الرحمن الرحيمٍ أما بعد. فإن اللّه لا يُغيرُ ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال. وإني قد لَبستكم فأخلفتُكم ورفعتكمِ عَلَى رأسي ثم عَلَى عَيني ثم على فَمي ثم عَلَى بطني واللّه لئن وضعتكم تحت
قدمي لأطانكم وطأة أقِلّ بها عددَكم وأترككم بها أحاديث تنتسخ أخبارُكم مع أخبار عاد وثمود. فلما أتاهم كتابُه حَمِي القوم فقدَّمت الأنصار عبدَ اللّه بن حنظلة عَلَى أنفسهم وقدَّمت قُريش عبدَ اللهّ بن مُطيع ثم أخرجوا عثمانَ بن محمد بن أبي سفيان من المدينة ومروانَ بن الحكم وكُل من كان بها من بني أمية. وكان عبدُ اللّه بن عباس بالطائف فسأل عنهم فقيل له: استعملوا عبدَ اللّه بن مُطيع عَلَى قريش وعبد اللّه بن حَنظلة عَلَى الأنصار.
فقال: أميران! هَلك القوم. ولما بلغ يزيد ما فعلوا أمر بقُبة فضُربت له خارجاً عن قَصره وقَطع البُعوث عَلَى أهل الشام فلم تمْض ثالثةٌ حتى توافت الحشود. فقَدِم عليهم مُسلم بن عُقبة المُرِّي فتوجّه إليهم. وقد عَمد أهلُ المدينة فأخرجوا إلى كل ماء لهم بينهم وبين الشام فصبّوا فيه زِقّاً من قَطران وغَوّروه فأرسل اللّه عليهم المطر فلم يَسْتقوا شيئاً حتى وردوا المدينة. قال أبو اليقظان وغيره: إنّ يزيدَ بن مُعاوية ولّى مسلمَ بن عُقبة وهو قد اشتكى فقال له: إن حَدث بك حَدَث فاستعمل حُصين بن نمير. فخرج حتى قدم المدينةَ فخرج إليه أهلُها في عُدة وهيئة وجُموع كثيرة لم يُرَ مثلها. فلما رآهم أهلُ الشام هابوهم وكرهوا قتالَهم. فأمر مُسلم بن عقبة بسَريره فوُضع بين الصَّفين وهو عليه مريض وأمر مُنادياً ينادي: قاتِلوا عن أميركم أو دَعوه. فجدّ الناس في القتال فَسمعوا التكبيرَ من خلفهم في جوف المدينة فإذا هم قد أقْحَم عليهم بنو
حارثة أهلَ الشام وهم عَلَى الجُدر فانهزم الناس. وعبد الله بن حَنظلة متساند إلى بعض بَنيه يَغُطُّ نوماً فلما فتحِ عينيه فرأى ما صَنعوا أمر أكبر بنيه فتقدَم حتى قُتل فلم يزل يقدِّم واحداً وأحدا حتى أتي عَلَى آخرهم ثم كسر غِمْد سيفه وقاتل حتى قُتِل. ودخل مسلمُ بن عقبة المدينة وتغلّب عَلَى أهلها ثم دعاهم إلى البيعة على أنهم خوَلٌ ليزيد ابن معاوية يَحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم فبايعوا حتى أتي بعبد اللّه ابن زَمعة فقال له: عَلَى أنك خَوَل لأمير المؤمنين يحكم في مالك ودمك وأهلك. قال: لن أبايع على أني بزعم أمير المؤمنين يحكم في دمي ومالي وأهلي. فقال مسلم بن عقبة: اضربوا عنقَه فوثب مروان بن الحكم فضمّه إِليه وقال: نُبايعك على ما أحببت. فقال: لا واللّه لا أقيلها إياه أبداً إن تَنح وإلا فاقتلوهما جميعاً. فتركه مروان وضُرب عنقه. وهَرب عبدُ الله بن مطيع حتى لحق بمكة فكان بها حتى قُتل مع عبد اللّه بن الزبير في أيام عبد الملك بن مروان وجعل يُقاتل أهلَ الشام وهو يقول: أنا الذي فررتُ يوم الحَرّه والشيخُ لا يَفرُّ إلا مَرة فاليومَ أجْزى كَرّة بقَرّة لا بأس بالكَرة بعد الفَرّة أبو عَقيل الدوْرقيّ قال: سمعتُ أبا نَضرة يحدّث قال: دخل أبو سعيد الخدريّ يوم الحَرّة في غار فدخل عليه رجل من أهل الشام وفي عُنق أبي سعيد السّيف فوضع أبو سَعيد السيفَ
وقال: بُؤ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين. فقال: أبو سعيدٍ الخدري أنت قال: نعم. قال: فاستغفر لي قال: غَفر اللّه لك. وأمر مُسلم بن عُقبة بقتل مَعقلِ بن سِنان الأشجَعي صبراً ومحمد بن أبي الجهم بن حُذيقة العَدوي صبراً وكان جميعُ من قتل يوم الحرة من قريش والأنصار ثلثَمائة رجل وستة رجال. ومن الموالي وغيرهم أضعافُ هؤلاء.
وبعث مًسلم بن عُقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد فلما ألقيت بين يديه جَعل يتمثل بقول ابن الزِّبْعري يوم أحد: ليت أشياخِي ببدرٍ شَهِدُوا جَزَع الخَزْرج من وَقْع الأسَل لأهلّوا واستهلوا فرحاً ولقالوا ليزيدَ: لا فَشَل فقال له رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارتددتَ عن الإسلام يا أمير المؤمنين! قال: بلى نَستغفر الله. قال: والله لا ساكنتُك أرضاً أبداً وخرج عنه. ولما انقضى أمرُ الحَرّة توجه مُسلم بن عُقبة بمن معه من أهل الشام إلى مكة يُريد ابنَ الزُبير وهو ثقيل فلما كان بالأبواء حَضره أجلُه فدعا حُصين ابن نمير فقال له: إني أرسلتُ إليك فلا أدري أقدَمك على هذا الجيش أم أقدَمك فأضرب عنقك قال: أصلحك اللّه أنا سهمُك فارم بي حيثُ شئت.
قال: إنك أعرابي جلْف جافٍ وإنّ هذا الحي من قريش لم يمكنهَم أحد قط من أذنه إلا غَلبوه
على رأيه فسِر بهذا الجيش فإذا لقيتَ القومَ فإياك أن تُمكنهم من أذنك لا يكن إلا على الوِقاف ثم الثقاف ثم الانصراف.
ومات مُسلم بن عُقبة وليصل بالناس الضحّاك بن قيس حتى يختار الناس لأنفسهم فلمّا مات صلى عليه الوليد بن عقبة لا رحمه الله. ومضى حُصين بن نُمير بجَيشه ذلك. فلم يزل محاصرًا لأهل مكة حتى مات يزيدُ لا رحمه الله وذلك خمسون يوماً. ونَصب المجانيق على الكعبة وحَرَقها يوم الثلاثاء لخمس خلون من ربيع الأول سنة أربع وستين وفيها مات يزيد بن معاوية بِحوارين.
وفاة يزيد بن معاوية مات يزيد بن معاوية بحُوارين من بلاد حِمْص وصلى عليه ابنُه معاوية ابن يزيد بن مُعاوية ليلة البدرِ في شهر ربيع الأول. وأم يزيد ميسون بنت بَحْدل الكَلْبي ومات وهو ابنُ ثمانٍ وثلاثين سنة وكانت ولايتُه ثلاثَ سنين وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوماً.
خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية واستُخلف معاويةُ بن يزيد بن معاوية في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وهو ابنُ إحدى وعشرين سنة ومات بعد أبيه بأربعين يوماً ولم يزل مريضاً طولَ ولايته لا يَخرج من بيته فلما حضرتْه الوفاةُ قيل له: لو عهدتْ إلى رجل من أهل بيتك واستَخلفت خليفةً قال: لم أنتفع بها حيا فلا أقلدها ميتا لا يذهب بنو أمية بحلاوتها وأتجرّع مرارتها ولكن إذا مِت فَلْيصل عليّ الوليدُ بن عُقبة وليصلِّ بالناس الضحاك بن قيس حتى يختار الناس لأنفسهم. فلما مات صلّى عليه الوليد بن عقبة وصلّى بالناس الضَحاك بن قيس بدمشق حيث قامت دولة بني مروان.
فتنة ابن الزبير قال عليّ بن عبد العزيز: حدّثنا أبو عُبيد عن حجَّاج عن أبي معشر قال: لما مات مُسلم بن عُقبة سار حُصين بن نُمير حتى أتى مكة وابنُ الزبير بها فدعاهم إلى الطاعة فلم يُجيبوه فقاتلهم وقاتله ابن الزبير. فقُتل المُنذرُ بن الزُبير يومئذ ورجلاًن من إخوته ومُصعب بن عبد الرحمن بن عوف والمسور بن مخرمة. وكان حُصين بن نُمير قد نَصب المجانيق على أبي قُبيس وعلى قُعيْقعان فلم يكن أحدٌ يقدر أن يطوف بالبيت. فأسند ابنُ الزبير ألواحاً من ساجٍ على
البيت وألقى عليها الفُرشَ والقطائف فكان إذا وَقع عليها الحجر نبا عن البيت. فكانوا يطوفون تحت الألواح فإذا سمعوا صوتَ الحَجر حين يقع على الفرش والقطائف كَبَروا وكان ابن الزبير قد ضَرب فُسطاطا في ناحية فكلما جُرح رجل من أصحابه أدخله ذلك الفسطاط فجاء رجل من أهل الشام بنار في طرف سنانه فأشعلها في الفُسطاط وكان يوماً شديد الحر فتمزّق الفُسطاط فوقعت النار على الكَعبة فاحترق الخشب والسقف وانصدعِ الرُّكن واحترقت الأستار وتساقطت إلى الأرض. قال: ثم اقتتلوا مع أهل الشام أياماً بعد حريق الكعبة. قال أبو عبيد: احترقت الكعبة يوم السبت لست خَلون من ربيع الأول سنة أربع وستين فجلس أهلُ مكة في جانب الحِجْر ومعهم ابنُ الزبير وأهل الشام يَرمونهم بالنَّبل والحجارة فوقعت نَبلة بين يدي ابن الزبير فقال: في هذه خبر. فأخذها فوجد فيها مكتوباً: مات يزيدُ بن معاوية يوم الخميس لأربعَ عشرةَ خلت من ربيع الأول. فلما قرأ ذلك قال: يا أهل الشام يا أعداء الله ومُحرِّقي بيت اللّه علامَ تُقاتلون وقد مات طاغيتُكم! فقالت حُصين بن نمير: موعدُك البطحاء الليلة أبا بكر. فلما كان الليل خَرج ابنُ الزًّبير بأصحابه وخَرج حُصين بأصحابه إلى البطحاء. ثم ترك كُلّ واحد منهما أصحابه وانفردا فنزلا. فقال حُصين: يا أبا بكر أنا سيّد أهل الشام لا أدافَع وأرى أهلَ الحجاز قد رَضُوا بك فتعالَ أُبايعْك الساعةَ ويهدر كل شيء أصبناه يومَ
الحَرّة وتَخرج معي إلى الشام فإني لا أحب أن يكون المُلك بالحجاز. فقال: لا واللّه لا أفعل ولا أمنُ مَن أخافَ الناسَ وأحرق بيتَ اللّه وانتهك حُرمته. قال: بل فافعل على أن لا يَختلف عليك اثنان. فأبي ابنُ الزبير. فقال له حُصين: لَعنك اللّه ولَعن مَن زعم أنك سيّد! واللهّ لا تُفلح أبداً! اركبوا يا أهل الشام. فركبوا واْنصرفوا. أبو عُبيد عن الحجّاج عن أبي مَعشر قال: حَدّثنا بعضُ المَشيخة الذين حَضروا قِتَالَ ابن الزبير قال: غَلب حُصين بن نُمير على مكّة كُلها إلا الحِجْر.
قال: فواللّه إني لجالس عنده معه نفر من القُرشيين: عبدُ اللّه بن مطيع والمختار بن أبي عُبيد والمِسْور بن مَخْرمة والمُنذر بن الزُبير: إذ هَبّت رُويحة فقال المختار: واللّه إني لأرى في هذه الرُّويحة النَّصر فاحملوا عليهم. فحملوا عليهم حتى أَخرجوهم من مكة وقَتل المختارُ رجلاً وقَتل ابنُ مطيع رجلاً ثم جاءنا على إثر ذلك موتُ يزيدَ بعد حريق الكعبة بإحدى عشرةَ ليلة وانصرف حُصين بن نُمير وأصحابه إلى الشام فوجدوا مُعاويةَ بن يزيد قد مات ولم يَستخلف وقال: لا أتحمّلها حيّا وميتا. فلما مات معاوية بن يزيد بايع أهلَ الشام كلّهم ابنَ الزبير إلا أهلَ الأرْدُنّ وبايع أهلُ مصر أيضاً ابنَ الزبير. واستخلف ابنُ الزبير الضحّاكَ بن قيس الفِهريِّ على أهل الشام. فلما رأى ذلك رجالُ بني أمية وناسٌ من أشراف أهل الشام ووجوههم منهم رَوحُ بن زِنْباع وغيره قال بعضهم لبعض: إنّ المُلك كان فينا أهلَ الشام فانتقل عنّا إلى الحجاز لا
نرضى بذلك هل لكم أنْ تأخذوا رجلاً منّا فينظرَ في هذا الأمر فقال: استخيروا اللّه. قال: فرأى القومُ أنه غلامٌ حَدث السن فخرجوا من عنده وقالوا: هذا حَدث. فأتوا عمرَو بنَ سعيد بن العاص فقالوا له: ارفع رأسك لهذا الأمر فرأوه حَدثاً فجاءوا إلى خالد بن يزيد بن معاوية فقالوا له: ارفع رأسَك لهذا الأمر فرأوه حَدثا حريصاً على هذا الأمر. فلما خرجوا من عنده قالوا: هذا حدث. فأتوا مروانَ ابن الحكم فإذا عنده مصباح وإذا هم يَسمعون صوته بالقُرآن فاستأذنوا ودخلوا عليه قالوا: يا أبا عبد اْلملك ارفع رأسَك لهذا الأمر. فقال: استخيروا اللهّ واسألوا أن يختار لأمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرها وأعدلها. فقال له روحُ ابن زِنباع: إنّ معي أربعَمائة من جُذام فأنا أمرهم أن يتقدّموا في المسجد غداً ومُر أنت ابنك عبدَ العزيز أن يخطب الناسَ ويَدْعوهم إليه فإذا فعل ذلك تنادَوْا من جانب المسجد: صدقتَ صدقتَ فيظنّ الناسُ أن أمرَهم واحد. فلما اجتمع الناسُ قام عبدُ العزيز فحَمِد اللّه وأثنى عليه ثم قال: ما أحدٌ أولى بهذا الأمر من مَروان كبير قُريش وسيّدها والذي نفسي بيده لقد شابت ذراعاه من الكِبَر. فقال الجُذاميون: صدقتَ صدقتَ. فقال خالدُ بن يزيد: أمر دبِّر بليل. فبايعوا مروانَ بن الحكم. ثم كان من أمره مع الضّحاك بن قيس بمَرْج راهط ما سيأتي ذكرُه بعد هذا في دولة بني مروان.
أبو الحسن قال: لما مات معاوية بن يزيد اختلف الناسُ بالشام فكان أوّلَ من خالف من أمراء الأجناد النعمانُ بن بَشير الأنصاري وكان على حِمْص فدعا لابن الزُبير فبلغ خبرُه زفرَ بن الحارث الكِلابيّ وهو بقِنَسْرين فدعا إلى ابن الزبير أيضاًً بدمشق سراً ولم يُظهر ذلك لمن بها من بني أمية وكلب. وبلغ ذلك حسان بن مالك بن بَحْدل الكَلْبي وهو بفِلسطين فقال لرَوْح بن زنباع: إني أرى أمراء الأجناد يبايعون لْابن الزبير وأبناء قيس بالأردن كثير وهم قومي فأنا خارج إليها وأقم أنت بفلسطين فإنّ جُل أهلها قومك من لَخْم وجُذام فإن خالفك أحدٌ فقاتلْه بهم. فأقام رَوْحٌ بفلسطين وخرج حسان إلى الأردُن. فقام ناتل بن قيس الْجُذاميّ فدعا إلى ابن الزُبير وأخرج روحَ بن زِنْباع من فلسطين ولحق بحسّان بالأردن. فقال حسانُ: يأهل الأردن قد علمتم أن ابن الزبير في شِقاق ونفاق وعصيان لخلفاء اللّه ومفارقةٍ لجماعة المسلمين فانظُروا رجلاً من بني حَرب فبايعوه. فقالوِا: اختر لنا من شئتَ من بني حَرب وجَنِّبنا هذين الرجلين الغلامين: عبدَ اللّه وخالداً ابني يزيد بن معاوية فإنّا نكره أن يدعوَ الناسُ إلى شيخ ونحن ندعو إلى صبيِّ. وكان هَوَى حسّانَ في خالد بن يزيد وكان ابنَ أخته. فلما رَموه بهذا الكلام أمسك وكتب إلى الضحاك بن قيس كتاباً يُعظّم فيه بني أمية وبلاءهم عنده ويذُم ابن الزبير ويذكر خِلافَه للجماعة وقال لرسوله: اقرأ الكتاب على الضحّاك بمَحضر بني أمية وجماعة
الناس. فلما قرأ كتابَ حسان تكلّم الناسُ فصاروا فِرْقتين فصارت اليمانية مع بني أمية والقَيْسيةُ زُبيريّةً ثم اجتلدوا بالنّعال ومَشى بعضًهم إلى بعض بالسيوف حتى حَجز بينهم خالدُ بن يزيد ودخل الضحاك دارَ الإمارة فلم يخرُج ثلاثةَ أيام. وقدِم عُبيدُ الله بن زياد فكان مع بني أمية بدمشق. فخرج الضحاكُ بن قيس إلى المَرْج - مرج راهط - فعسكر فيه وأرسل إلى أمراء الأجناد فأتوه إلّا ما كان من كَلْب. ودعا مروانُ إلى نفسه فبايعته بنو أمية وكَلب وغسان والسكاسك وطَيىء فعسكر في خَمسة آلاف. وأقبل عَبَّاد بن يزيد من حُوران في ألفين من مواليه وغيرهم من بني كلب فلحق بمروان. وغلب يزيدُ بن أبي أنيس على دمشق فأخرج منها عاملَ الضحاك وأمد مروان برجاليٍ وسلاح كثير. وكتب الضحاك إلىِ أمراء الأجناد فقدم عليه زفر بن الحارث من قِنَسرين وأمده النُّعمان بن بشير بشرَحبْيل بن ذي الكَلاع في أهل حِمْص فتوافَوا عند الضحًاك بمرْج راهط فكان الضحاك في ستين ألفاً ومروان في ثلاثةَ عشر ألفاً أكثرهم رجّالة وأكثرُ أصحاب الضحاك رُكبان. فاقتتلوا بالمَرْج عشرين يوماً وصَبر الفريقان. وكان على مَيمنة الضحاك زيادُ بن عمرو بن معاوية العُقيلي وعلى مسيرته بَكْر بن أبي بشير الهلالي. فقال عُبيد اللّه بن زياد لمروان: إنك على حق وابن الزبير ومن دعا إليه على الباطل وهم أكثر منا عَدداً وعُدداً ومع الضحاك فُرسان قيس واعلم أنك لا تنال منهم ما
تريد إلا بمكيدة وإنما الحرب خدعة فادعهم إلى الموادعة فإذا أمنوا وكَفَوا عن القتال فكُرّ عليهم. فأرسل مروانُ السُّفَراء إلى الضحَاك يدعوه إلى الموادعة ووَضْع الحرب حتى يَنْظر.
فأصبح الضحَاك والقَيسية قد أمسكوا عن القتال وهم يطمعون أن يُبايع مروان لابن الزّبير وقد أعد مروانُ أصحابَه فلم يشعر الضحاك وأصحابُه إلا والخيل قد شدَّت عليهم ففزع الناس إلى راياتهم من غير استعداد وقد غشيتهم الخيلُ فنادى الناسُ: أبا أنيس أعَجْز بعد كَيْس - وكُنية الضحاك: أبو أنيس - فاقتتل الناسُ ولزم الناسُ راياتهم فترجل مروان وقال: قَبّح اللّه من ولأهم اليومَ ظهرَه حتى يكون الأمر لإحدى الطائفتين. فقُتل الضحاكً بن قيس وصَبرت قيسُ عند راياتِها يقاتلون فنظر رجل من بني عُقيل إلى ما تَلْقى قيس عند راياتها من القَتل فقال: اللهم العنها من رايات! واعترضَها بسيفه فجعل يَقْطعها فإذا سقطت الرايةً تفرق أهلها. ثم انهزم الناس فنادى مُنادِي مروان: لا تَتبعوا من ولّاكم اليوم ظهره. فزعموا أن رجالاً من ليس لم يَضحكوا بعد يوم المَرج حتى ماتوا جَزعا على من أصيب من فُرسان قيس يومئذ. فقتل مِن قَيس يومئذ ممن كان يأخذ شَرف العطاء ثمانون رجلاً وقُتل من بني سليم سِتّمائة وقُتل لمروان ابنٌ يقال له عبدُ العزيز. وشَهد مع الضحَّاك يوم مَرْج راهط عبدُ اللهّ بن معاوية بن أبي سُفيان.
فلما انهزم الناسُ قال له عُبيد اللّه بن زياد: ارتدف خَلْفي فارتدف فأراد عمرو بن سَعيد
أن يقتلَه. فقال له عبيدُ اللّه بن زياد: ألا تكُفّ يا لَطِيمَ الشيطان! وقال زفر بن الحارث وقد قُتل ابناه يوم المَرْج: لَعمري لقد أبقتْ وقيعة راهطٍ بمَروان صَدْعاً بيّنا مًتنائيا فلم يُزَ مِنّي زَلةٌ قبلَ هذه فِراري وتَركي صاحبي ورائيا أيذهبُ يومٌ واحدٌ إن أسأتُه بصالح أيامي وحُسْن بلائيا أنترك كلْباً لم تَنَلها رماحُنا وتَذهب قَتْلى راهطٍ وهي ما هيا وقد تَنْبُت الخَضراء في دِمَن الثرى وتَبقى حَزازاتُ النفوس كما هيا فلا صُلْع حتى نَدْعس الخَيلَ بالقَنا وتثأر من أبناء كَلْب نسائيا فلما قتل الضحاك وانهزم الناس نادى مروانُ أن لا يُتبع أًحد. ثم أقبل إلى دمشق فدخلها ونَزل دارَ مُعاوية بن أبي سفيان دارَ الِإمارة ثم جاءته بَيعة الأجناد فقال له أصحابه: إنا لا نتخوّف عليك إلا خالدَ بن يزيد فتزوّجْ أمه فإنك تَكْسره بذلك وأمه ابنة أبي هاشم بن عُتبة بن ربيعة. فتزوّجها مروان فلما أراد الخروجَ إلى مصر قال لخالد: أعرْني سلاحاً إن كان عندك فأعاره سلاحاً وخَرج إلى مصر فقاتل أهلَها وسَبى بها ناساً كثيراً فافتدوا منه. ثم قَدم الشام فقال له خالدُ. بن يزيد: رُدّ عليّ سلاحي. فأبى عليه. فألحّ عليه خالد. فقال له
مَروان وكان فَحّاشا: يا بن رَطْبة الإست. قال: فدخل إلى أمه فبكى عندها وشكا إليها ما قاله مروانُ على رؤوس أهل الشام. فقالت له: لا عليك فإنه لا يعود إليك بمثلها. فلبث مروان بعد ما قال لخالد ما قال أياماً ثم جاء إلى أم خالد فرقد عندها فأمرت جواريها فطَرحْن عليه الوسائد ثم غَطّته حتى قتلته ثم خَرجن فصِحْن وشَقَقنَ ثيابهن: يا أمير المؤمنين! يا أمير المؤمنين! ثم قام عبدُ الملك بالأمر بعده فقال لفاخر أم خالد: والله لولا أن يقول الناس إني قتلتُ بأبي امرأةً لقتلتُكِ بأمير المؤمنين. ووُلد مروانُ بن الحكم بن العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بمكة. ومات بالشام لثلاث خلون من رَمضان سنة خمس وستين وهو ابن ثلاث وستين سنة. وصلى عليه ابنُه عبد الملك بن مروان. وكانت ولايته تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً. وكان على شرُطته يحيى بن قيس الشّيباني. وكاتبه سَرجون بن منصور الرُّومي.
وحاجبه أبو سَهل الأسود مولاه.
ولاية عبد الملك بن مروان هو عبدُ الملك بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية. ويكنى: أبا الوليد. ويقال له: أبو الأملاك وذلك أنه ولى الخلافةَ أربع من ولده: الوليدُ وسليمان ويزيد وهشام. وكان تَدْمى لَثته
فيقع عليها الذُّباب فكان يُلقّب: أبا الذُّباب. أمه عائشة بنت معاوية بن المُغيرة بن أبي العاص بن أمية. وله يقول ابن قيس الرقيات: أنت ابنُ عائشة التي فَضَلت أروم نسائها لم تَلْتفت للِداتها ومَشَت على غُلَوائها وَلدت أغر مباركاً كالشَّمْس وَسْط سمائها وبُويع عبدُ الملك بدمشق لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين ومات بدمشق للنصف من شوال سنة ستّ وثمانين وهو ابنُ ثلاثٍ وستين سنة فصلّى عليه الوليدُ بن عبد الملك.
ووُلد عبدُ الملك بالمدينة سنة ثلاثٍ وعشرين ويقال سنة ستٍّ وعشرين. ويقال وُلد لسَبعة أشهر. وكان على شرُطته ابنُ أبي كَبْشة السَّكْسَكي ثم أبو نائل بن رِياح بن عُبيدة الغَسِّاني ثم عبدُ الله بن يزيد الحَكميّ. وعلى حَرسه الرَّيَّان. وكاتبه على الخراج والجُند سرَجون ابن منصور الرُّومي. وكتبه على الرسائل أبو زُرعة مولاه. وعلى الختم قَبيصة ابن ذُؤيب. وعلى بُيوت الأموال والخزائن رَجاء بن حَيْوَة. وحاجبُه أبو يوسف مولاه. ومات عبد الملك سنة ستٍّ وثمانين وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة. وصلّى عليه الوليد ابنُه. وكانت ولايتُه منذ اجتُمع عليه ثلاثَ عشرةَ سنة وثلاثة أشهر ودُفن خارجَ باب المدينة. وفي أيام عبد الملك حُوّلت الدواوينُ
إلى العربيّة عن الرومية والفارسية حَوّلها عن الرُّومية سليمان بن سَعْد مولى خُشين. وحولها عن الفارسية صالحُ بن عبد الرحمن مولى عتبة امرأة من بني مُرة. ويقال: حُولت في زمن الوليد. ابنُ وَهب عن ابن لَهِيعة قال: كان معاوية فَرض للموالي خَمسة عشر فبلَّغهم عبدُ الملك عشرين ثم بلّغهم سليمانُ خمسة وعشرين ثم قام هشام فأتم للأبناء منهم ثلاثين. وكتب عبدُ اللّه بن عمر إلى عبد الملك بن مروان بَيعتَه لما قُتل ابنُ الزبير وكان كتابه إليه يقول: لعبد الملك بن مروان من عبد الله بن عُمر: سلام عليك فإني أقررتُ لك بالسَّمع والطاعة على سُنة اللّه وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وبيعةُ نافع مولاي على مثل ما بايعتُك عليه.
وكتب محمدُ بن الحنفيّة ببيعته لما قتل ابن الزبير وكان في كتابه: إني اعتزلتُ الأمة عند اختلافها فقعدتُ في البلد الحرام الذي مَن دخله كان آمناً لأحْرزَ ديني وأمنعَ دمي وتركتُ الناسَ " وقد رأيتُ الناسَ قد اجتمعوا عليك ونحن عصابة من أمتنا لا نُفارق الجماعة وقد بعثتُ إليك منّا رسولا ليأخذ لنا منك ميثاقا ونحن أحق بذلك منك. فإن أبيتَ فأرضُ اللّه واسعة والعاقبة للمتقين. فكتب إليه عبدُ الملك: قد بلغني كتابُك بما سألتَه منِ المِيثاق لك وللعصابة التي معك. فلك عهدً اللهّ وميثاقه أن لا تُهاج في سلطاننا غائباً ولا شاهداً ولا أحد من أصحابك ما وَفَوْا ببيعتهم فإن
أحببتَ المُقام بالحجاز فأقم فلن نَدع صِلتك وبِرَّك وإن أحببتَ المُقام عندنا فاشخَص إلينا فلن نَدع مواساتِك. ولعمري لئن ألجأتُك إلى الذهاب في الأرض خائفاً لقد ظَلمناك وقَطعنا رَحِمك. فاخرُج إلى الحَجاج فبايع. فإنك أنت المحمود عندنا ديناً ورأيا وخيرٌ من ابن الزبير وأرضى وأتقى. وكتب إِلى الحجاج بن يوسف: لا تَعْرِض لمحمد ولا لأحد من أصحابه وكان في كتابه: جنّبني دماء بني عبد المطلب فليس فيها شِفاء من الحَرَب وإني رأيتُ بني حَرْب سُلبوا ملكهم لما قَتلوا الْحُسين بن علي. فلم يتعرض الحجاج لأحد من الطالبيّين في أيامه. أبو الحسن المدائني قال: كان يقال: معاوية أحلم وعبدُ الملك أحزم. وخطب الناسَ عبدُ الملك فقال: أيها الناس ما أنا بالخليفة المُستضعف - يريد عثمان بن عفان - ولا بالخليفة المُداهن - يريد معاوية بن أبي سفيان - ولا بالخليفة المأفون - يريد يزيدَ بن معاوية فمن قال برأسه كذا قُلنا بسيفنا كذا ثم نزل. وخطب عبد الملك على المنبر فقال: أيها الناس إن الله حدَ حُدوداً وفَرض فروضاً فما زِلتم تَزْدادون في الذُنب ونزداد في العقوبة حتى اجتمعنا نحن وأنتم عند السيف.
أبو الحسن المدائني قال: قَدِم عمرُ بن علي بن أبي طالب على عبد الملك فسأله أن يُصير إليه صدقةَ علي. فقال عبدُ اِلملك متمثلاً بأبيات ابن أبي الحقْيق: إني إذا مالتْ دَواعي الهَوَى وأنصتَ السامعُ للقائل
لا نَجعل الباطلَ حقَّا ولا نَرْضى بدُون الحقّ للباطل لا لعمري لا نُخرجها من ولد الحسين إليك. وأمر له بصلة ورجع. وقال عبد الملك بن مروان لأيْمن بن خُريم: إن أباك وعمك كانت لهما صحبة فخذ هذا المال فقاتل ابن الزبير. فأبى فشتمه عبد الملك. فخرج وهو يقول: فلستُ بقاتل رجلاً يُصلِّي على سلطان آخرَ من قُريش له سلطانُه وعليً إثمِي معاذَ اللهّ من سَفَه وطَيْش وقال أيمن بن خُريم أيضاً: إنّ للفتنة هَيْطا بينا فرُويدَ المَيلَ منها يَعْتدِلْ فإذا كان عطاءٌ فانتهز وإذا كان قِتال فاعتزل إنما يُوقدها فُرْساننا حَطبَ النار فَدَعْها تشتعل وقال زُفر بن الحارث لعبد الملك بن مَروان: الحمد لله الذي نَصرك على كُره من المؤمنين. فقال أبو زعيزعة: ما كره ذلك إلا كافر. فقال زُفَر: كذبت قال الله لنبيّه: " بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون وبعث عبد الملك بن مروان إلى المدينة حبيش بن دلجة القيسي في سبعة آلاف. فدخل المدينةَ وجلس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
فدعا بخبز ولحم فأكل ثم دعا بماء فتوضأ على المنبر ثم دعا جابر بن عبد الله صاحبَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تُبايع لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين بعَهد الله عليك وميثاقه وأعظم ما أخذ الله على أحد من خَلقه في الوفاء فإن خُنتنا فَهَراق اللّه دَمك على ضلال.
قال: أنت أطوقُ لذلك مني ولكن أبايعه على ما بايعتُ عليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوم الحُديبية على السمع والطاعة. ثم خرج ابنُ دُلْجة من يومه ذلك إلى الربذة وقدم على أثره من الشام رجلاًن مع كل واحد منهما جَيش ثم اجتمعوا جميعاَ في الربذة وذلك في رمضان سنة خمس وستين. وأميرُهم ابن دلجة. وكتب ابنُ الزبير إلى العبّاس بن سَهل الساعديّ بالمدينة أن يَسير إلى حُبيش بن دُلجة. فسار حتى لَقِيه بالربذة. وبعث الحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة - وهو عامل ابن الزبير على البصرة - مدداً إلى العباس بن سهل حُنيفَ بن السِّجف في تسعمائة من أهل البصرة. فساروا حتى انتهوا إلى الربذة. فبات أهلُ البصرة وأهل المدينة يقرأون القرآن ويُصلون. وبات أهل الشام في المَعازف والخمور فلما أصبحوا غَدوا على القِتال فقُتل حُبيش بن دُلجة ومن معه. فتحصّن منهم خمسمائة رجل من أهل الشام على عمود الربذة وهو الجبل الذي عليها وفيهم يوسف أبو الحجَّاج فأحاط بهم عباس بن سهل فطلبوا الأمان فقال: انزلوا على حُكمي فنزلوا عَلى حكمه فضرب أَعناقَهم أجمعين. ثم رجع عبّاس بن سهل إلى
المدينة وبعث عبدُ اللّه بن الزُّبير ابنَه حمزة عاملاً عَلَى البصرة فاستضعفه القومُ فبعث أخاه مُصعب بن الزُّبير فقدم عليهم فقال: يا أهل البصرة بلغني أنه لا يَقْدَم عليكم أمير إلا لَقّبتموه إني ألقَب لكم نفسي: أنا القصَّاب.
خبر المختار بن أبي عبيد ثم أرسل عبدُ اللّه بن الزبير إبراهيمَ بن محمد بن طلحة أميراً عَلَى الكوفة ثم عزله وأرسل المختار بن أبي عُبيد. وأرسل عبدَ الملك عبيدَ اللّه بن زياد إلى الكوفة. فبلغ المختارَ إقبالُ عبيد الله بن زياد فوجّه إليهم إبراهيم بن الأشتر في جيش فالتقوا بالجازِر وقَتل عبيدَ اللّه بن زياد وحُصين بن نمير وذا الكَلاع وعامة من كان معهم. وبعث برؤوسهم إلى عبد اللّه بن الزبير.
أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدٌثنا شرَيك بن عبد اللّه عن أبي الجُويرية الجَرْمي قال: كنتُ فيمن سار إلى أهل الشام يوم الجازِر مع إبراهيم بن الأشتر فلقيناهم بالزَّاب فهبت الريحُ لنا عليهم فأدبروا فقتلناهم عَشِيّتنا وليلتنا حتى أصبحوا: فقال إبراهيم: إني قتلت البارحة رجلاً فوجدتُ عليه ريح طِيب فالْتَمِسوه فما أراه إلا ابن مَرْجانة. فانطلقنا فإذا هو والله مَعْكوس في بطن الوادي.
ولما التقى عُبيد الله بن زياد وإبراهيم بن الأشتر بالزاب قال: مَن هذا الذي يُقاتلني قيل له:
إبراهيم بن الأشتر. قال: لقد تركته أمس صبيّا يلعب بالحَمام. قال: ولما قُتل ابن زياد بَعث المختارُ برأسه إلى عليّ بن الحسين بالمدينة. قال الرسول: فقدمتُ به عليه انتصافَ النهار وهو يتغدّى قال: فلما رآه قال: سبحان اللّه! ما اغتر بالدًّنيا إلا مَن ليس للّه في عُنقه نِعْمة! لقد أدخل رأس أبي عبدِ اللّه على ابن زياد وهو يتغدّى. وقال يزيد بن مُفَرّغ: إنَّ الذي عاش ختّاراً بذمَّته وماتَ عَبداً قتيلُ الله بالزَّابِ ثم إن المختار كتب كتاباً إلى ابن الزبير وقال لرسوله: إذا جئت مكة فدفَعتَ كتابي إلى ابن الزبير فأتِ المهديّ - يعني محمدَ بن الحفنية - فاقرأ عليه السلام وقل له: يقول لك أبو إسحاق: إني أحبك وأحب أهل بيتك. قال: فأتاه فقال له ذلك. فقال: كذبتَ وكذب أبو إسحاق وكيف يُحبني ويُحب أهل بيتي وهو يُجلس عمر بن سعد عَلَى وسائده وقد قتل الحُسين! فلما قدم عليه رسولُه وأخبره. قال المختار لأبي عمرو صاحب حرسه: استأجر لي نوائح يَبكين الحُسين على باب عمر بن سَعد ففَعل. فلما بكيَن قال عمر لابنه حَفْص: يا بني ايت الأمير فقل له: ما بالً النوائح يبكين الحسين على بابي فأتاه فقال له ذلك. فقال: إنه أهلٌ أن يُبكى عليه. فقال: أصلحك اللهّ انههن عن ذلك. قال: نعم تم دعا أبا عمرو صاحبَ حَرسه قال له: اذهب إلى عمر بن سعد فأتني برأسه. فأتاه فَقَام له: قم إليّ أبا حفص. فقام إليه وهو
مُلتحف بملحفة فجلّله بالسيف فقتله وجاء برأسه إلى المختار. ثم قال: ائتوني بابن عمر. فلما حضره قال: أتعرف هذا قال: نعم رحمه اللهّ. قال: أتحب أن نُلحقك به قال: لا خير في العَيش بعده. فأمر به فضُرب عنقه. ثم إن المختار لما قَتل ابنَ مَرْجانة وعمر بن سعد جعل يَتْبع قتلة الحسين بن علي ومن خَذله فقتلهم أجمعين وأمر الحُسينية وهم الشيعة أن يطوفوا في أزقَّة المدينة بالليل ويقولوا: يا ثارات الحسين! فلما أفناهم ودانت له العراق ولم يكن صادق النيَّة ولا صحيحَ المذهب وإنما أراد أن يَستأصل الناس فلما أدرك بُغيته أظهر قُبح نيّته للناس فادّعى أنّ جبريل ينزل عليه ويَأتيه بالوحي من اللّه. وكتب إلى أهل البصرة: بلغني أنكم تُكَذبونني وتكذبون رُسلي وقد كُذبت الأنبياء من قبلي ولست بخير من كثير منهم. فلما انتشر ذلك عنه كَتَب أهلُ الكوفة إلى ابن الزبير وهو بالبَصًرة فخرج إليه. وبَرز إليه المختار فأسلمه إبراهيمُ بن الأشتر ووُجوه أهل الكوفة فقتله مُصعب وقَتل أصحابَه. أبو بكر بنُ أبي شَيبة قال: قيل لعبد الله بن عمر: إن المختار ليزعم أنه يوحَى إليه. قال: صَدق الشياطين يوحون إلى أوليائهم.
وقَتل مصعبٌ من أصحاب المختار ثلاثةَ آلاف. ثم حج سنة إحدى وسبعين فقَدِم على أخيه عبد اللهّ بن الزبير ومعه وجوه أهل العراق فقال: يا أمير المؤمنين قد جئتُك
بوجوه أهل العراق ولم أدعْ لهم بها نظيراً فأعطهم من المال. قال جِئتني بعبيد أهل العراق لأعطيَهم من مال اللهّ وددتُ أنّ لي بكل عشرْة منهم رجلاً من أهل الشام صَرْفَ الدينار بالدرهم. فلما انصرف مُصعب ومعه الوفدُ من أهل العراق وقد حِرمهم عبدُ الله بن الزبير ما عنده فسدت قلوبهم فراسلوا عبد الملك بن مروان حتى خرج إلى مصعب فقتله. فيُ بن عبد العزيز عن حجاج عن أبي معشر قال: لما بَعث مُصعبٌ برأس المختار إلى عبد اللّه بن الزُّبير فوُضع بين يديه قال: ما مِن شيء حَدَثنيه كعبُ الأحبار إلا قد رأيتُه غيرَ هذا فإنه قال لي: يَقتلك شاب من ثقيف فأراني قد قتلتُه. وقال محمد بن سيرين لما بلغه هذا الحديث: لم يعلم ابنُ الزبير أنّ أبا محمد قد خُبىء له. ولما قتل مصعب المختارَ بن أبي عُبيد ودانت له العراق كلها: الكوفة والبصرة قال فيه عبيدُ اللهّ بن قيس الرّقيات: كيف نَوْمي على الفِراش ولما تَشْمَل الشامَ غارةٌ شَعْوَاءُ تُذْهلُ الشيخَ عن بنيه وتُبْدِي عن خِدام العَقِيلةُ العَذْرَاء إنما مصعبٌ شهاب من الل ه تجلّت عن وَجْهه الظلْماء وتزوج مُصعب - لما ملك العراقَ - عائشة بنت طلحة وسُكينة بنت الحُسين ولم يكن لهما
نظير في زمانهما. وقَتل مصعب امرأةَ المختار وهي ابنة النُّعمان بن بَشير الأنصاري فقال فيها عمرُ بن أبي ربيعة المَخزومي: إنَّ من أعظمِ المَصائب عندي قَتْل حَوْراءَ غادةٍ عَيْطَبول قُتلت باطلاً على غير ذَنْب إن للّه دَرَّها مَن قَتيل كُتب القَتل والقِتال عليناً وعلى الغَانيات جَرُ الذيول مقتل عمرو بن سعيد الأشدق أبو عُبيد عن حجّاج عن أبي مَعشرِ قال: لما قَدم مُصعب بوجوه أهل العراق على أخيه عبد اللهّ بن الزُبير فلم يُعطهم شيئاً أبغضوا ابنَ الزُّبير وكاتَبوا عبد الملك بن مروان فخرج يُريد مصعبَ بن الزبير فلما لِم أخذ في جَهازه وأراد الخُروج أقبلت عاتكةُ بنت يزيد بن معاوية في جَواريها وقد تزينت بالحُلى فقالت: يا أمير المؤمنين لو قعدت في ظلال مُلكك ووجهت إليه كلْباً من كلابك لكَفاك أمرَه. فقال: هيهات! أما سمعت قولَ الأول: قَوْمٌ إذا ما غَزَوْا شَدوا مآزرَهم دون النِّساء ولو باتت بأطْهارِ.
فلما أبى عليها وعَزم بكت وبكى معها جواريها. فقال عبدُ الملك: قاتل اللّه ابنَ أبي جُمعة كأنه ينظر إلينا حيث يقول:
نهته فلما لم تَر النّهي عاقَه بَكت فَبكى مما دهاها قَطِينُها ثم خرج يُريد مصعب فلما كان من دِمشق على ثلاث مراحل أغلق عمرو بن سعيد دمشقَ وخالف عليه فقيل له: ما تصنعِ أتريد العراق وتَدع دمشق أهلُ الشام أشدّ عليك من أهل العراق فرجع مكانه فحاصر أهلٍ دمشق حتى صالح عمرو بن سَعيد على أنه الخليفةُ بعدَه وأن له مع كل عامل عاملا. ففَتح له دمشق وكان بيت المال بيد عمرو بن سَعيد فأرسل إليه عبدُ الملك: أن أخْرِج للحَرس أرزاقهم. فقال: إذا كان لك حَرس فإنِّ لنا حَرساً أيضاً. فقال عبد الملك: أخرج لحرسك أيضاً أرزاقَهم. فلما كان يوم من الأيام أرسل عبدُ الملك إلى عمرو بن سعيد نِصف النهارَ أن ائتني أبا أمية حتى أدبِّر معك أموراً. فقالت له امرأته: يا أبا أمية لا تذهب إليه فإنني أتخوّف عليك منه. فقال: أبو الذباب! واللّه لو كنت نائماً ما أيقظنِي. قالت: واللّه ما آمنُه عليك وإني لأجد ريح دم مَسْفوح. فما زالت به حتى ضربها بقائم سيفه فشجَّها. فخرج وخرج مه أربعة آلاف من أبطال أهل الشام الذين لا يُقدر على مثلهم مسلَحين فأحدقوا بخَضراء دِمشق وفيها عبدُ الملك فقالوا: يا أبا أُمية إن رابك رَيب فأَسمعنا صوتَك.
قال: فدخل فجعلوا يصيحون: أبا أمية! أسمعنا صوتك وكان معه غلام أسحم شُجاع فقال له: اذهب إلى الناس! فقل لهم: ليس عليه بأس. فقال له عبد الملك: أمكراً عند الموت أبا
أمية! خُذوه فأخذوه. فقال له عبد الملك: إني أقسمتُ إن أمكنتني منك يدٌ أن أجعل في عُنقك جامعة وهذه جامعة من فِضَّة أريد أن أبِرّ بها قَسمي. قال: فطَرح في رقبته الجامعة ثم طَرحه إلى الأرض بيده. فانكسرت ثنيَته فجعل عبدُ الملك ينظر إليه. فقال عمرو: لا عليك يا أمير المؤمنين عَظْم انكسر. قال: وجاء المُؤذنون فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين لصلاة الظهر فقال لعبد العزيز بن مروان: اقتله حتى أرجع إليك من الصلاة. فلما أراد عبدُ العزيز أن يَضرب عُنقه قال له عمرو: نشدتُك بالرِّحم يا عبد العزيز أن لا تَقْتلني من بينهم فجاء عبدُ الملك فراه جالساً فقال: مالك لم تقتله! لَعنك اللهّ ولعن أمَّا ولدتك. ثم قال: قَدِّموه إليّ فأخذ الحَرْبة بيده فقال عمرو: فعلتها يا بن الزَرقاء! فقال له عبدُ الملك: إني لو علمتُ أنك تَبقى ويَصْلح لي ملكي لفديتُك بدم النَّاظر. ولكن قلّما اجتمع فَحلان في ذَوْد إلا عدا أحدُهما على الآخر ثم رفع إليه الحربة فقتله. وقعد عبدُ الملك يُرْعَد ثم أمر به فأدرج في بساط وأدخل تحت السَرير.
وأرُسل إلى قَبيصة بن ذُؤيب الخُزاعيّ فدخل عليه فقال: كيف رأيك في عَمرو بن سعيد الأشدق قال: وأبصر قبيصةُ رجلَ عمرو تحت السرير فقال: اضرب عنقه يا أمير المؤمنين.
قال: جَزاك اللّه خيراً أما علمتُ إنك لموفّق. قال قبيصة: اطْرح رأسه وانثُر على الناس الدَّنانير يَتشاغلون بها. ففعل وافترق الناس وهَرب يحيى بن سَعيد بن العاص حتى لحق بعبد اللهّ بن
الزُبير بمكة فكان معه. وأرسل عبدُ الملك بن مروان بعد قتله عمرو بن سعيد إلى رجل كان يَستشيره وُيصْدر عن رأيه إذا ضاق عليه الأمر فقال له: ما ترى ما كان من فِعلي بعَمرو ابن سعيد قال: أمرٌ قد فات دَرَكه. قال: لتقولن. قال: حَزْم لو قتلتَه وحَييت أنت. قالت: أو لستُ بحيّ قال: هيهات! ليس بحيّ من أوقف نفسَه موقفاً لا يُوثق منه بعهد ولا عَقد. قال: كلام لو تقدَّم سماعُه فِعلي لأمسكتُ. ولما بلغ عبد اللّه بن الزبير قتلُ عمرو بن سعيد صَعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن عبد الملك بن مروان قتل لَطِيم الشيطان كذلك نُولِّي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون.
مقتل مصعب بن الزبير فلما استقرت البيعةُ لعبد الملك بن مروان أراد الخُروج إلى مُصعب بن الزبير فجعل يَستنفر أهل الشام فيُبطئون عليه فقال له الحجاجُ بن يوسف: سَلطني عليهم فوالله لأخرجنَّهم معك. قال له: قد سَلطتك عليهم. فكان الحجَّاج لا يَمر على باب رجل منِ أهل الشام قد تخّلف عن الخروج إلا أحرق عليه دارَه. فلما رأى ذلك أهلُ الشام خرجوا وسار عبدُ الملك حتى دنا من العراق. وخرج مصعب بأهل البصرة والكوفة فالتقوا بين الشام والعراق. وقد كان عبد الملك كتب كُتباً إلى رجاله من وجوه أهل العراق يدعوهم فيها إلى نَفسه ويَجعل لهم الأموال وكتب
إلى إبراهيم بن الأشتر بمثل ذلك على أن يَخْذلوا مُصعبا إذا التقَوْا. فقال إِبراهيم بن الأشتر لمُصعب: إن عبد الملك قد كتب إليّ هذا الكتاب وقد كتب إلى أصحابي بمثل ذلك فادعُهم الساعةَ فاضرب أعناقَهم قال: ما كنت لأفعل ذلك حتى يَستبين لي أمرهم. قال: فأخرى. قال: ما هي قال: احبِسْهم حتى يَستبين لك ذلك. قال: ما كُنت لأفعل. قال: فعليك السلام وِالله لا تَراني بعدُ في مجلسك هذا أبداً. وقد كان قال له: دَعْني أدعو أهلَ الكوفة بما شرطه الله فقال: لا واللّه قتلتهُم أمس وأستنصر بهم اليوم! قال: فما هو إلا أن التَقوا فحولوا وُجوههم وصاروا إلى عبد الملك. وبقي مُصعب في شِرْذمة قليلة. فجاءه عُبيد الله بن زياد بن ظَبيان وكان مع مُصعب فقال: أين الناس أيها الأمير فقال: قد غدرتم يا أهل العراق! فرفع عُبيد اللّه السيفَ ليضرب مُصعبا فبدره مُصعب فضربه بالسيف على البَيضة فنَشِب السيفُ في البَيضة فجاء غلامُ لعُبيد اللّه ابن زياد بن ظَبيان فضرب مُصعبا بالسيف فقَتله. ثم جاء عُبيدُ اللّه برأسه إلى عبد الملك بن مروان وهو يقول: نُطيع مُلوك الأرض ما أقْسَطوا لنا وليس علينا. قَتْلُهم بمُحَرم قال: فلما نظر عبدُ الملك إلى رأس مُصعب خَر ساجداً. فقال عُبيد الله بن زياد بن ظَبيان وكان من فُتّاك العرب: ما ندمتُ على شيء قطُّ ندَمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيتُه برأس
مُصعب فخر ساجداً أن لا أكون ضربت عنقه فأكون قد قَتلت مَلِكي العرب في يوم واحد.
وقال في ذلك عُبيد اللهّ ابن زياد بن ظَبيان: هَممتُ ولم أفعل وكِدْتُ ولَيتني فعلتُ فأدْمنت البُكا لأقاربِه فأوردتُها في النّار بكرَ بنَ وائلٍ وألحقتُ مَن قد خَرَّ شُكْراً بصاحبِه الرياشي عن الأصمعي قال: لما أُتي عبدُ الملك برأس مُصعب بن الزبير نظر إليه مليّاً ثم قال: متى تَلد قُريش مثلَك! وقال: هذا سيّد شَباب قُريش.
وقيل لعبد الملك: أكان مُصعب يَشرب الطَلاء فقال: لو علم مُصعب أن الماء يُفسد مروءتُه ما شرََبه.
ولما قُتل مُصعب دخل الناسُ على عبد الملك يُهنَئونه ودَخل معهم شاعرٌ فأنشده: اللّه أعطاك التي لا فَوقَها وقد أراد المُلْحِدون عَوْقَها عنك ويَأبَى اللًهُ سَوْقَها إليك حتى قَلّدُوكَ طَوْقها فأمر له بعشرة آلاف درهم. وقالوا: كان مُصعب أجلَ الناس وأسخى الناس وأشجع الناس. وكان تحته عَقيلتا قُريش: عائشة بنت طلحة وسكَينةُ بنت الحسين. ولما قُتل مُصعب خرجت سُكينة بنت الحسين تُريد المدينة فأطاف بها أهل العراق وقالوا: أحسنَ اللهُ صحابتَك يا ابنةَ رسول الله. فقالت: لا جزاكم الله عني خيراً ولا أخلف عليكم بخير من أهل بلد قتلتم أبي وجدي وعمّي وزَوْجي أيتمتموني صغيرةً وأرملتموني كبيرة. ولما بلغ عبد اللّه بن الزبير قتلُ مصعب صَعِد المنبر فجلس عليه ثم سكت فجعل لونُه يحمر مرة ويصفرّ مرة فقال رجل من قُريش لرجل إلى جنبه: ماله لا يتكلم! فوالله إنه لَلخطيب الَّلبيب. فقال له الرجل: لعلّه يريد أن يَذْكر مَقتل سيّد العرب فيشتدِّ ذلك عليه وغير ملوم. ثم تكلَم فقال: الحمدُ لله الذي له الخَلقُ والأمر والدنيا والآخرة يُؤتي المُلك مَن يشاء ويَنزع الملك ممن يشاء ويُعز من يشاء ويُذل مَن يشاء أما بعد. فإنه لم يَعِزّ مَن كان الباطل معه ولو كان معه الأنام طُراً ولم يَذِل من كان الحقّ معه ولو كان فرداً. ألا وإنّ خبراً من العراق أتانا فأحزننا وأفرحنا فأما الذي أحزننا فإنّ لفراق الحميم لوعةً يجدها حميمهُ ثم يَرْعوى ذوو الألباب إلى الصبر وكريم الأجر وأما الذي أفرحنا فإن قَتل مصعب له شهادةٌ ولنا ذَخيرة. أسلمه الطغام والصلْم الآذان أهلُ العراق وباعوه بأقل من الثمن الذي كانوا يأخذون منه فإن يُقتَل فقد قُتل أخوه وأبوه وابنُ عمه وكانوا الخيارَ الصالحين. أما والله لا نموت حتف أُنوفنا كما يموت بنو مروان ولكن قَعْصاً بالرماح وموتاً تحت ظلالِ السيوف فإن تقبل الدنيا علي لم آخذها مأخذَ الأشرِ البَطِر وإن تدْبر عني لم أبْك عليها بُكاء الخَرِف الزائل العَقْل. ولما توطَّد لابن الزُبير أمرُه ومَلك الحرمين والعراقين أظهر بعضُ بني هاشم الطعنَ عليه وذلك بعد موت الحسن والحسين فدعا عبدَ الله بن عبّاس ومحمدَ بن الحنفية وجماعةً من بني هاشم إلى بيعته فأبَوْا عليه فجعل يَشْتمهم ويَتناولهم على المِنبر وأسقط ذكرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم من خُطبته فعُوتب على ذلك فقال: واللّه ما يمنعني أني لا أذكره علانية من ذِكْره سرّاً وأُصلّي عليه ولكن رأيتُ هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذِكْرَه اشرأبت أعناقُهم وأبغض الأشياء إلي ما يسرهم. ثم قال: لتبايعُنَ أو لأحرقنكم بالنار. فأبوا عليه فحبَس محمدَ بن الحنفية في خمسةَ عشر من بني هاشم في السجن وكان السجنُ الذي حَبسهم فيه يقال له سِجن عارم. فقال في ذلك كُثير عَزَّة وكان ابنُ الزُبير يُدعى العائذ لأنه عاذ بالبيت: تخبَرُ مَن لاقيتَ أنك عائذ بل العائذ المَظلوم يفي سِجْن عارِم سَميُّ النبيّ المصطفى وابنُ عمه وفَكّاكُ أغلالٍ وقاضي مَغارم وكان أيضاً يُدعى المحِلّ لإحلاله القِتال في الحَرم. وفي ذلك يقول رجل من الشعراء في رَملة بنت الزُّبير: ألا مَن لِقَلْب مُعنَى غَزِلْ بذِكْر المُحِلّة أُخت المُحلّ ثم إن المختارً بن أبي عُبيد وجّه رجالاً يثق بهم من الشِّيعة يَكْمنون النهارَ ويسيرون الليل
وخطب عبدُ اللّه بن الزبير بعد موت الحَسن والحُسين فقال: أيها الناس إن فيكم رجلاً قد أعمى اللّه قلبَه كما أعمى بصرَه قاتل أُمّ المؤمنين وحواريّ رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وأفتى بزواج المُتعة. وعبدُ اللّه بن عباس في المسجد فقام وقال لعِكرمة: أقِم وَجْهي نحوه يا عكرمة ثم قال هذا البيت: إن يأخذ اللّهُ من عَيْنَيّ نورَهما ففي فُؤادِي وعَقْلي منهما نُورُ وأما قولُك يا بن الزبير إني قاتلت أُمّ المؤمنين فأنت أخرجتها وأبوك وخالُك وبنا سُمِّيت أُم المؤمنين فكُنّا لها خيرَ بنين فتجاوزَ اللّه عنها. وقاتلتَ أنت وأبوك عليّا فإن كان عليّ مؤمناً فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين وإن كان كافراً فقد بؤُتم بسُخط من اللّه بفراركم من الزَّحف. وأما المُتعة فإني سمعتُ عليّ بن أبي طالب يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رخّص فيها فأفتيتُ بها ثم سمعتهُ يَنهي عنها وأول مِجْمر سطَع في المُتعة مجمر آل الزبير.
مقتل عبد اللّه بن الزبير أبو عُبيد عن حجّاج عن أبي مَعْشر قال: لما بايع الناسُ عبدَ الملك بن مروان بعد قَتْل مُصعب بن الزبير ودخل الكوفة قال له الحجّاج: إني رأيتُ في المَنام كأني أسْلُخ ابنَ الزُّبير من رأسه إلى قَدميه. فقال له عبدُ الملك: أنت له فاخرج إليه. فخرج إليه الحجاج لا ألف وخمسمائة حتى نزل الطائفَ. وجعل عبدً الملك يُرسل إليه الجيوش رَسَلا بعد رَسَل حتى تَوافي إليه الناسُ قدرَ ما يظن أنه يَقْوى على قتال ابن الزبيرِ وكان ذلك في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين. فسار الحجاجُ من الطائف حتى نزل مِنَى فحجَّ بالناس وابنُ الزبير مَحصور ثم نَصب الحجاجُ المجانيق على أبي قُبيس وعلى قُعيْقان ونواحي مكة كُلِّها يرمي أهلَ مكة بالحجارة. فلما كانت الليلةُ التي قُتل يا صبيحتها ابنُ الزبير جمع ابنُ الزبير مَن كان معه من القرشيين فقال: ما ترون فقال رجل من بني مخزوم مِن آل بني ربيعة: واللّه لقد قاتلنا معك حتى لا نَجد مقيلًا ولئن صبرنا معك ما نزيد على أن نموت وإنما هي إحدى خَصْلتين: إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا وإما أن تأذن لنا فَنخرج. فقالت ابن الزبير: لقد كنتُ عاهدتُ الله أن لا يبايعني أحدٌ فأُقيله بيعتَه إلا ابن صفوان. فقال ابن صفوان: أما أنا فإني أقاتل معك حتى أموت بموتك وإنها
لتأخذني الحَفيظة أن أسلمك في مثل هذه الحالة. وقال له رجل آخر: اكتب إلي عبد الملك بن مروان. فقال له: كيف أكتب: من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان فواللّه لا يَقبل هذا أبداً أم أكتب: لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير فواللّه لأن تقع الخَضْراء على الغبراء أحبّ إليّ من ذلك. فقال عُروة بن الزُّبير وهو جالس معه على السرير: يا أمير المؤمنين قد جعل الله لك أُسوة. قال: من هو قال: حسن بن عليّ خَلع نفسه وبايع مُعاوية. فرِفع ابنُ الزبير رِجْلَه فضرب بها عُروة حتى ألقاه عن السرِير وقال: يا عروة قلبي إذاَ مثلُ قَلبك! واللّه لو قبلتُ ما تقولون ما عِشْت إلا قليلا وقد أخذت الدَنيَّة وإن ضربة بسيف في عِزّ خيرٌ من لَطْمَة في ذُلّ. فلما أصبح دخل عليه بعضُ نسائه وهي أُم هاشم بنت منصور بن زياد الفَزارية فقال لها: اصنعي لنا طعاماً فصنعت له كبداً وسَناماً. فأخذ منه لُقمة فلاكها ثم لفَظها ثم قال: اسقوني لَبناً. فأُتي بلبن فشرب منه. ثم قال: هَيِّئوا لي غُسلا فاغتسل ثم تحنط وتَطيَّب ثم نام نومة وخَرج ودَخل على أمه أسماء بنت أبي بكر ذات. النِّطاقين وهي عمياء وقد بلغت مائة سنة فقال: يا أماه ما ترين قد خَذلني الناس وِخَذلني أهلُ بيتي فقالت: لا يلعبن بِك صِبيان بني أُمية عِشْ كريماً ومُت كريماً. فخرج فأسند ظهرَه إلى الكعبة ومعه نفرٌ يسير فجعل يُقاتلهم ويَهْزِمهم وهو يقول: ويله! يا له فتْحا لو كان له رجال!
فناداه الحجاج: قد كان لك رجال فضيّعتَهم. وجعل ينظر إلى أبواب المسجد والناس يَهْجُمون عليه فيقول: مَن هؤلاء فيقال له أهلُ مصر. قال: قَتلة عثمان! فحمل عليهم وكان فيهم رجل من أهل الشام يقال له خَلبوب فقال لأهل الشام: أما تستطيعون إذا ولَّى ابنُ الزبير أن لأخذوه بأيديكم قالوا: وُيمكنك أنت أن تأخذَه بيدك قال نعم. قالوا: فشأنَك. فاقبل وهو يريد أن يَحتضنه وابنُ الزبير يَرتجز ويقول: لو كان قِرْني واحداً كفيتُه فضربه ابنُ الزبير بالسيف فقطع يده. فقال خَلبوب: حَس قال ابن الزبير: اصبر خَلبوب. قال: وجاءه حجر من حِجارة المَنجنيق فأصاب قَفاه فسقط. فاقتحم أهلُ الشام عليه. فما فهموا قتلَه حتى سمعوا جارية تَبكي وتقول: وا أمير المؤمنيناه! فحزّوا رأسه وذهبوا به إلى الحجّاج.
وقُتل معه عبد اللّه بن صَفوان وعُمارة بن حَزم وعبد الله بن مُطيع.
قال أبو معشر: وبعث الحجاجُ برؤوسهم إلى المدينة. فنَصبوها للناس فجعلوا يُقرّبون رأسَ ابن صفوان إلى ابن الزبير كأنه يسارّه ويَلعبون بذلك. ثم بعث برؤوسهم إلى عبد الملك بن مَروان.
فخرجت أسماء إلى الحجاج فقالت له: أتأذن لي أن أدفنه فقد قضيتَ أربك منه قال: لا. ثم قال لها: ما ظنّك برجل قَتل عبدَ اللّه بن الزبير قالت: حَسِيبُه اللهّ. فلما منعها أن تدفنه
قالت: أما إنّي سمعتُ رسول الله يقول: يَخرج من ثقيف رجلاًن: الكذاب والمُبير فأما الكَذاب فالمُختار وأما المُبير فأنت. فقال الحجاج: اللهم مُبيرٌ لا كذّاب. ومن غير رواية أبي عُبيد قال: لما نَصب الحجاج المجانيق لقتال عبد الله بن الزُبير أظلتهم سحابة فأرعدت وأبرقت وأرسلت الصواعق ففزع الناس وامسكوا عن القتال. فقام فيهم الحجاجُ فقال: أيها الناس لا يهولنكم هذا فإني أنا الحجاج بن يوسف وقد أصحرتُ لربِّي فلو ركبنا عظيماً لحال بيننا وبينه.
ولكنها جبال تهامة لم تزل الصواعقُ تنزل بها. ثم أمر بكُرسيّ فطُرح له ثم قال: يا أهل الشام قاتلوا على أعطيات أمير المؤمنين. فكان أهلُ الشام إذا رَموا الكعبة يَرْتَجزون ويقولون هذا: خَطّارة مثل الفَتِيق المُزْبِد يُرمى بها عُوّاذ أهل المَسجد ويقولون أيضاً: دِري عُقاب بلبن وأشخاب. فلما رأى ذلك ابن الزُّبير خرج إليهم بسيفه فقاتلهم حيناً. فناداه الحجِّاج: ويلك يا بن ذات النَطاقين! اقْبل الأمان وادْخل في طاعة أمير المؤمنين.
فدخل على أمه أسماء فقال لها: سمعتِ - رحمك اللّه - ما يقول القومُ وما يَدْعونني إليه من الأمان قالت: سمعتُهم لعنهم الله! فما أجهلهم وأعجب منهم إذ يُعيرُونك بذات النّطاقين! ولو علموا ذلك لكان ذلك أعظَم فَخرك عندهم. قالت: وما ذاك يا أماه قالت: خرج رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره مع أبي بكر فهيأت لهما سُفرة فطلبا شيئاً يَرْبطانها بها
فما وجداه فقطعتُ من مِئْزري لذلك ما احتاجا إليه فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: أمَا إن لك به نِطاقين في الجنَة. فقال عبد اللّه: الحمد للّه حمداً كثيرِاً فما تأمريني به فإنهم قد أعْطوني الأمان قالت: أرى أن تموت كريماً ولا تتَّبع فاسقاً لئيماً وأن يكون آخر نهارك أكرمَ من أوله. فَقبَّل رأسها وودّعها وضمّته إلى نفسها. ثم خرج من عندها فَصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنّ الموت قد تغشَاكم سحابُه وأحْدف بكم رَبابُه واجتمع بعد تَفرّق وارجحنّ بعد تَمشّق ورَجَس نحوكم رعدُه وهو مُفْرغ عليكم وَدْقه وقاد إليكم البلايا تَتْبعها المنايا فاجعلوا السيوفَ لها غرضاً واستعينوا عليها بِالصبر. وتمثَّل بأبيات ثم اقتحم يُقاتل وهو يقول: قد جَدّ أصحابُك ضرْبَ الأعْناقْ وقامت الحربُ لها على ساقْ ثم جعل يُقاتل وحده ولا يَهُدّه شيء كلما اجتمع عليه القومُ فرقهم وذادهم حتى أثخن بالجراحات ولم يستطع النُّهوض. فدخل عليه الحجّاج فدعا بالنَطع فحزّ رأسه هو بنفسه في داخل مسجد الكعبة - لا رَحم اللّه الحجّاج - ثم بعث برأسه إلى عبد الملك بن مَروان وقَتَل من أصحابه مَن ظَفِر به. ثم أقبل فاستأذن على أمه أسماء بنت أبي بكر ليعزّيها فأذنت له فقالت له: يا حجّاج قتلتَ عبد الله قال: يا ابنة أبي بكر إني لقاتلُ الملحدين. قالت: بل
أنت قاتل المُؤمنين الموحَدين. قال لها: كيف رأيتِ ما صنعتُ بابنك قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك ولا ضَير أنْ أكرمه اللّه على يَديك فقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بَغيّ من بغايا بني إسرائيل. هشامُ بن عُروة عن أبيه قال: كان عُثمان استخلف عبد اللّه بن الزُّبير على الدار يوم الدار فبذلك ادّعى ابنُ الزبير الخلافَة. محمد بن سعيد قال: لما نَصب الحجاج رايةَ الأمان وتصرّم الناسُ عن ابن الزبير قال لعبد الله بن صَفْوان: قد أقلتُك بيعتي وجعلتُك في سَعة فخُذ لنفسك أماناً. فقال: مه والله ما أعطيتُك إياها حتى رأيتُك أهلاً لها وما رأيتُ أحداً أولى بها منك فلا تَضربُ هذه الصلعةَ فتيانُ بني أمية أبداً وأشار إلى رأسه.
قال: فحدثت سليمان بن عبد الملك حديثَه فقال: إني كنت لأراه أعرجَ جباناً. فلما كانت الليلة التي قُتل في صباحها ابنُ الزُّبير أقبل عبدُ اللّه بن صفوان وقد دنا أهلُ الشام من المسجد فاستأذن. فقالت الجاريةُ: هو نائم. فقال: أو ليلةُ نوم هذه أيْقظيه فلم تَفعل. فأقام ثم استأذن. فقالت: هو نائم فانصرف. ثم رجع آخرَ الليل وقد هجم القومُ على المَسجد. فخرج إليه فقال: واللّه ما نِمْتُ منذُ عَقلت الصلاة نومي هذه الليلةَ وليلةَ الجمل ثم دعا بالسّواك فاستاك متمكَناً ثم توضَّأ متمكناً ولبس ثيابَه ثم قال: أنظرني حتى أودِّع أمَّ عبد اللّه فلم يَبقَ شيء وكان يكره أن يأتيَها فتعزمَ عليه أن يأخذ الأمان فدخل عليها وقد كُفّ بصرُها فسلّم
فقالت: مَن هذا فقال: عبد الله فشمّته ثم قالت: يا بُني مُت كريماً. فقال لها: إن هذا قد أمّنني - يعني الحجاج - قالت: يا بني لا تَرضَ الدنيَّة فإن الموت لا بُدّ منه. قال: إني أخاف أن يُمثِّلِ بي. قالت: إن الكَبْش إذا ذُبح لم يأمن السلخ. قال: فخَرج فقاتل قتالاً شديداً. فجعل يَهْزِمهم ثم يَرجع ويقول: يا له فتحاً لو كان له رجال! أو كان المُصعب أخي حَيًّاً! فلما حَضرت الصلاة صلّى صلاته ثم قال: أين باب أهل مصر حَنقاً لعثمان. فقاتل حتى قتل وقُتل معه عبدُ اللهّ بن صفوان. وأتي برأسه الحجاجُ وهو فاتح عَينيه وفاه فقال: هذا رجل لم يكن يعرف القَتل ولا ما يَصير إليه المقتول لذلك فتح عَينيه وفاه. هشام بن عُروة عن أبيه: إن عبد اللهّ بن الزُّبير كان أولَ مولود وُلد في الإسلام فلما وُلد كبّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولما قُتل كبَر الحجاج ابن يوسف وأهلُ الشام معه. فقال ابن عمر: ما هذا قالوا: كَبّر أهل الشام لقتل عبد اللّه بن الزُّبير. قال: الذين كَبَروا لمولده خيرٌ من الذين كبَروا لقتله. أيوب عن أبي قُلابة: شهدتُ ابنةَ أبي بكر غَسّلت ابنها ابنَ الزُّبير بعد شهر وقد تقطعت أوصاله وذُهب برأسه وكَفّنته وصلّت عليه. هشام بن عُروة قال: عبدُ اللّه بن عبَّاس للجائز به: جَنِّبني خَشبة ابن الزُّبير. فلم يَشعر ليلة حتى عَثر فيها فقال: ما هذا فقال: خَشبة ابن الزبير. فوقف ودعا له وقال: لئن عَلتْك رجلاك لطالما وقفتَ عليهما في صَلاتك. ثم قال لأصحابه: أما واللّه ما عرفتهُ
إلا صَوّاماً قَوّاماً ولكنني ما زلتُ أخاف عليه منذ رأيتهُ أن تُعجبه بَغلاتُ معاوية الشُهب.
قال: وكان معاوية قد حَجّ فدخل المدينة وخلفه خمسَ عشرةَ بغلة شهباء عليها رحائل الأرجوان فيها الجواري عليهن الجَلابيبُ والمُعَصفرات ففُتن الناس.
أولاد عبد الملك بن مروان الوليد وسليمان من العَبْسية ويزيد وهشام وأبو بكر ومَسْلمة وسَعيد الخير وعبدُ اللّه وعَنْبسة والحجاج والمُنذر ومَرْوان الأكبر ومَروان الأصغر - ولم يُعقب مروان الأكبر - ومحمد ومُعاوية دَرَج.
وفاة عبد الملك بن مروان توفّي عبد الملك بن مروان بدمشق للنِّصف من شوال سنة ست وثمانين وهو ابن ثلاث وستين وصلّى عليه الوليد بن عبد الملك. ووُلد عبدُ الملك في المدينة في دار مَروان سنة ثلاث وعشرين وكتب عبدُ الملك إلى هشام بن إسماعيل المَخزوميّ وكان عاملَه على المدينة أن يدعو الناسَ إلى البيعة لابنيه الوليد وسليمان. فبايع الناسُ غيرَ سعيد بن المُسيِّب فإنه أبى وقال: لا أبايع وعبدُ الملك حيّ. فضربه هشام ضرباً مُبرَحاً وألبسه المَسوح وأرسله إلى ثنيَّة بالمدينة يَقتلونه عندها ويَصْلُبونه فلما انتهوا به إلى الموضع ردّوه. فقال سَعيد: لو علمتُ أنهم لا
يَصْلبونني ما لبستُ لهم التُّبّان. وبلغ عبدَ الملك خبرهُ فقال: قَبح اللّه هشاماً مِثل سعيد بن المُسيِّب يُضرب بالسياط! إنما كان ينبغي له أن يدعوَه إلى البَيعة فإن أب يَضْرب عنقه. وقال للوليد: إذا أنا مِتُّ فَضعْني في قبري ولا تَعْصر في عَيْنيك عَصْر الأمة ولكن شَمِّر وائتزر والبَس للناس جِلْد النمر فمن قال برأسه كذا فقُل بسَيْفك كذا.
ولاية الوليد بن عبد الملك ثم بُويع للوليد بن عبد الملك في النِّصف من شوال سنة ست وثمانين. وأم الوليد ولّادة بنت العباس بن جَزْء بن الحارث بن زُهير بن جَذيمة العَبْسي. وكان على شُرطته كَعْب بن حمّاد ثم عَزله وولى أبا نائل بن رِياح ابن عَبدة الغساني. ومات الوليد يوم السبت في النِّصف من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وهو ابن أربع وأربعين. وصلّى عليه سليمان. وكانت ولايته عشرَ سنين غيرَ شهور.
ولد الوليد بن عبد الملك عبد العزيز ومحمد وعَنْبسة ولم يُعْقِبوا - وأمهم أم البنين بنت عبد العزيز ابن مروان - والعباس وبه كان يُكنى ويقال: إنه كان أكبرهم وعمر وبشر ورَوْح وتمّام ومبشر وحَزْم وخالد ويزيد ويحيى وإبراهيم وأبو عُبيدة ومَسرور ومَنْصور ومَرْوان وصَدقة لأمهات أولاد. وأم أبي عُبيدة فَزارية. وكان أبو عُبيدة ضَعيفاً. وولي الخلافة من ولد الوليد إبراهيم شهرين ثم خُلع. وولي يزيد الكامل شهراً ثم مات. وكان تمام ضعيفاً هجاه رجل فقال: بنو الوليد كرامٌ في أرومتهمِ نالوا المكارمَ طُرًّا غيرَ تَمّام
ومَسرور بن الوليد وكان ناسكاً وكانت عنده بنتُ الحجاج. وكان بِشْر من فتيانهم ورَوْح من غلمانهم والعباس من فُرسانهم وفيه يقول الفرزدق: إنَ أبا الحارث العباس نائله مثلُ السماك الذي لا يُخلِف المَطَرَا وكانت تحته بنتُ قُطَريّ بن الفجاءة سباها وتزوجها. وله منها: المُؤمّل والحارث وكان عمر من رجالهم كان له تسعون ولداً ستون منهم كانوا يركبون معه إذا ركب. وقال رجل من أهل الشام: ليس من ولد الوليد أحدٌ إلا ومَن رآه يَحسب أنه من أفضل أهل بيته ولو وُزن بهم أجمعين عبدُ العزيز لرجحهم. وفيهم يقول جرير: وبنو الوليد مِن الوليد بمنزلٍ كالبدر حُفّ بواضحاتِ الأنجُم وعبد العزيز بن الوليد أراد أبوه أن يُبايع له بعد سُليمان فأي عليه سليمان. وحدّث الهيثم بن عدي عن ابنٍ عياش قال: لما أراد الوليدُ أن يبايع لابنه عبد العزيز بعد سُليمان أبى ذلك سليمان وشنِّع عليه فقيل للوليد: لو أمرت الشعراء أن يقولوا في ذلك لعلّه كان يَسكت فتُشهد عليه بذلك. فدعا الأقبيل القَيني فقال له: ارتجز بذلك وهو يَسمع. فدعا سليمان فسايره والأقبيل خلفه فرفع صوته وقال: إنَ وليّ العَهد لابن أمه ثم ابنهُ وليّ عهد عمّه
يا ليتها قد خرجت من فمّه فالتفت إليه سليمان وقال: يا بن الخبيثة من رضي بهذا!
أخبار الوليد أبو الحسين المدائني قال: كان الوليد أسنَّ ولد عبد الملك وكان يُحبه فتراخَى في تأديبه لشدَة حُبه إياه فكان لحّاناً. وقال عبدُ الملك: أضرَنا في الوليد حُبًّنا له. فلم يُوجِّهه إلى البادية. وقال الوليد يوماً وعنده عُمر بن عبد العزيز: يا غلام ادع لي صالح. فقال الغلام: يا صالحاً. فقال له الوليد: انقص ألفاً. فقال عمر بن عبد العزيز: وأنت يا أمير المؤمنين فزِدْ ألفاً. وكان الوليد عند أهل الشام أفضلَ خلفائهم وأكثرَهم فُتوحا وأعظمَهم نفقة في سبيل اللّه بنى مسجدَ دمشق ومسجدَ المدينة وَوضع المنابر وأعطىِ المجْذومين حتى أغناهم عن سُؤال الناس وأعطى كلِّ مُقعد خادماً وكل ضرير قائداَ. وكان يَمر بالبقَّال فيتناول قَبْضة فيقول: بكمْ هذه فيقول: بفَلْس فيقول: زِدْ فيها فإنك تَربح. ومَرَّ الوليدُ بمعلّم كُتَّاب فوجد عنده صَبيَّة فقال: ما تَصنع هذه عندك فقال: أُعلّمها الكتابة والقرآن. قال: فاجعل الذي يُعلّمها أصغرٍ منها سناً. وشكا رجل من بني مخزوم دَيْناً لَزِمه فقال: نَقْضيه عنك إن كُنت لذلك مُستحقّا. قال: يا أمير المؤمنين وكيف لا أكوِن مُستحقًّا في مَنزلتي وقَرابتي قال: قرأتَ القرآن قال: لا. ادْن مني فدنا منه فنزع العِمامة عن رأسه بقَضيب في يده ثم قَرعه به قَرْعة وقال لرجل من جلسائه: ضُمّ إليك هذا العِلْج ولا تُفارقه حتى يَقرأ القرآن. فقام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين اقض دَيْني
فقال له: أتقرأ القرآن قال: نعم. فاستقرأه عَشْراً من الأنفال وعَشْرا من براءة فقرأ. فقال نعم نَقضي دَينك وأنت أهلٌ لذلك. وركب الوليدُ بعيراً وحادٍ يحدُو بين يديه والوليد يقول: يا أيها البَكْر الذي أراكا ويحك تَعْلمُ الذي عَلاكا خليفة الله الذي امتطاكا لم يُحْبَ بكْر مثلَ ما حباكا
ولاية سليمان بن عبد الملك أبو الحسن المدائني: ثم بويع سُليمان بن عبد الملك في ربيع الأول سنة ست وتسعين. ومات سنة تِسع وتسعين بدابِق يوم الجمعة لعشر خلون من صفر وهو ابنُ ثلاثٍ وأربعين. وصلّى عليه عمرُ بن عبد العزيز. وكانت ولايتُه سنتين وعشرةَ أشهر ونصفاً. وُلد سليمان فصيحاً جميلاً وسيماً نشأ بالبادية عند أخواله بني عَبْس. وكانت وِلايتُه يُمناً وبركة افتتحها بخير وختمها بخير. أما افتتاحه فيها بخير فردّ المظالم وأخرج المسجونين وبغَزاة مَسلمة بن عبد الملك الصائفة حتى بلغ القُسطنطينية. وأما ختمها بخير فاستخلافُه عمرَ بن عبد العزيز. ولبس يوماً واعتمّ بعمامة وكانت عنده جارية حجازيّة فقال لها: كيف تَرين الهيئة فقالت: أنت أجملُ العرب لولا! قال: على ذلك لتقولِنِّ. قالت: أنت نِعْم المتاعُ لو كنتَ تَبْقى غيرَ أن لا بقاءَ للإنسانِ أنت خِلو من العُيوب ومما يكره الناسُ غير أنك فاني قال: فتنغّص عليه ما كان فيه فما لبث بعدها إلا أياماً حتى تُوفي رحمه الَلّه. وتفاخر ولدُ لعمر بن عبد العزيز وولدٌ لسليمان بن عبد الملك فذكر ولدُ عُمَر فضلَ أبيه وخالِه. فقال له ولدُ
سُليمان: إن شئتَ فأقْللْ وإن شِئتَ فأكثر فما كان أبوك إلا حسنةٌ من حسنات أبي. محمد بن سليمانَ قال: فعل سُليمان في يوم واحد ما لم يَفعله عمرُ بن عبد العزيز في طول عمره: أعتق سبعين ألفاً ما بين مملوك ومملوكة وبتّتَهم أي كساهم. والبَتُّ: الكسوة.
ولد سليمان أيوب وأمه أم أبان بنت الحَكم بن العاص وهو أكبر وَلد سليمان ووليّ عهده فمات في حياة سليمان وله يقول جرير: إنّ الإمام الذي ترجى فواضله بعد الإمام ولي العهد أيوبُ وعبد الواحد وعبدُ العزيز أمهما أمُّ عامر بنت عبدا لله بن خالد بن أسيد. وفي عبد الواحد يقول القَضاميّ: أهل المدينة لا يَحزُنْك حالهم إذا تَخطَأ عبدَ الواحد الأجلُ قد يُدرك المتأنِّي بعضَ حاجته وقد يكون مع المُستعجل الزَّلل ولما مات أيوب وليُّ عهد سليمان بن عبد الملك قال ابن عبد الأعلى يَرثيه وكان من خواصه: ولقد أقولُ لذي الشَماتة إذ رَأى جَزَعي ومَن يَذُق الحوادثَ يَجزع أبشرِ فقد قَرع الحوادثُ مروتي وأفْرَح بمَرْوتك التي لم تُقْرَع
أيوبُ مَن يَشْمَت بموتك لم يُطق عن نَفسه دَفْعاً وهل مِن مَدْفع
أخبار سليمان بن عبد الملك أبو الحسن المدائني قال: لما بلغ قُتَيبَةَ بنَ مسلم أنّ سليمان بن عبد الملك عَزله عن خُراسان واستعمل يزيدَ بن المهلب كتب إليه ثلاث صُحف وقال للرسول: ادفع إليه هذه فإن دَفعها إلى يزيد فادفع إليه هذه فإن شَتمني فادفع إليه هذه. فلما سار الرسولُ إليه دفع الكتابَ إليه وفيه: يا أمير المؤمنين إنّ من بلائي في طاعة أبيك وأخيك كَيْتَ وكَيت. فدفع كتابَه إلى يزيد.
فأعطاه الرسولُ الكتابَ الثاني وفيه: يا أمير المؤمنين كيف تأمن ابنَ دَحْمة على أسرارك وأبوه لم يَأْمنه على أمهات أولاده فلما قرأ الكتاب شَتمه وناوله ليزيد. فأعطاه الثالثَ وفيه: من قُتيبة بن مُسلم إلى سليمان بن عبد الملك. سلامٌ على من اتبع الهدى. أما بعد. فواللهّ لأوثقنَّ له أخيّةَ لا ينزِعها المَهر الأرِن. فلما قرأها قال سُليمان: عَجّلنا على قُتيبة يا غلام جدِّد له عهداَ على خُراسان. ودخل يزيدُ بن أبي مُسلم كاتبُ الحجاج على سليمان. فقال له سليمان: أترى الحجاج استقر في قَعْرِ جهنم أم هوِ يَهْوى فيها قال: يا أمير المؤمنين إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك فضَعه من النار حيث شئت. قال: فأمر به إلى الحَبس فكان فيه طولَ ولايته. قال محمد بن يزيد الأنصاريّ: فلما وَلي عمرُ بن عبد العزيز بعثني. فأخرجتُ مِن السجن مَن حَبسَ سليمان ما خلا يزيدَ بن أبي مُسلم فقد رُدِّ. فلما مات عمرُ بن عبد
العزيز ولّاه يزيدُ بن عبد الملك إفريقية وأنا فيها فأخِذتُ فأتي بي إليه في شهر رمضان عند الليل فقال: محمد بن يزيد قلت: نعم. قال: الحمد للّه الذي مَكّنني منك بلا عَهد ولا عَقْد فطالما سألتُ الله أن يُمكنني منك. قلت: وأنا واللّه طالما استعذت باللهّ منك. قال: فواللهّ ما أعاذك اللّه منّي ولو أنَّ ملك الموت سابَقني إليك لسبقته. قال: فأقيمت صلاةُ المغرب فصلّى ركعة فثارت عليه الجُند فقتلوه وقالوا لي: خُذ أيّ طريق شئت. وأراد سُليمان بن عبد الملك أن يَحْجر على يزيد بن عبد الملك وذلك أنه تزوَج سُعدى بنت عبد اللّه بن عمرو بن عثمان فأصدقها عشرين ألف دينار واشترى جارية بأربعة آلاف دينار. فقال سليمان: لقد هَممتُ أن أضربَ على يد هذا السفيه ولكن كيف أصنع بوصيَّة أمير المؤمنين بابني عاتكة: يزيد ومروان! وحبس سليمانُ بنُ عبد الملك موسى بنَ نُصير وأوحى إليه: اغرم ديتك خمسين مرة.
فقال موسى: ما عندي ما أغرمه. فقال. واللّه لتغرمنّها مائةَ مرة. فحملها عنه يزيدُ بنِ المهلّب وشكر ما كان من موسى إلى أبيه المهلّب أيامَ بشْر بن مروان وذلك أن بشراَ هَمّ بالمهلّب فكتب إليه مولى يُحذّره فتمارض المهلَب ولم يأته حين أرسل إليه. وكان خالد بن عبد اللّه القَسريّ والياً على المدينة للوليد ثم أقرّه سليمان وكان قاضي مكة طَلحةُ بن هَرم فاختصم إليه رجلٌ من بني شَيبة الذين إليهم مفتاح الكعبة يقال له الأعجم مع ابن أخ له في أرض لهما فقضى
للشيخ على ابن أخيه وكان متَّصلاً بخالد بن عبد اللّه فأقبل إلى خالد فأخبره فحال خالد بين الشيخ وبين ما قضى له القاضي. فكتب القاضي كتاباً إلى سُليمان يشكو له خالداً ووجه الكتاب إليه معِ محمد بن طلحة. فكتب سُليمان إلى خالد: لا سبيلَ لك على الأعجم ولا ولده.
فقدِم محمد بن طلحة بالكتاب على خالد وقال: لا سبيلَ لك علينا هذا كتابُ أمير المؤمنين.
فأمر به خالد فضرب مائة سوط قبل أن يُقرأ كتابُ سليمان. فبعث القاضي ابنَه المضروب إلى سليمان وبعث ثيابه التي ضُرب فيها بدمائها. فأمر سليمان بقَطْع يد خالد. فكلَّمه يزيدُ ابن المهلب وقال: إن كان ضربَه يا أمير المؤمنين بعد ما قرأ الكتاب تُقطع يده وإن كان ضَربه قبل ذلك فَعفْو أمير المؤمنين أولى بذلك. فكتب سُليمان إلى داود بن طلحة بن هرم: إن كان ضَرب الشيخَ بعدما قرأ الكتاب الذي أرسلته فاقطع يده وإن كان ضَرِبه قبل أن يَقرأ كتابي فاضربه مائة سوط. فأخذ داودُ بن طلحة لمّا قرأ الكتاب خالداً فضربه مائة سوط. فَجزع خالد من الضَّرب فجَعل يَرفع يديه. فقال له الفرزدق: ضُم إليك يديك يا بن النّصرانية. فقال: ليهنأ الفرزدق وضَمّ يديه. وقال الفرزدق: لعمري لقد صُبّت على مَتن خالد شآبيبُ لم يُصْببن من صَبَب القطْرِ فلولا يزيدُ بن المهلَب حلَقت بكفك فَتْخاء الجَناح إلى الوَكْر
لعمري لقد باع الفرزدقُ عِرضَه بخَسْف وصَلّى وجهَه حامِي الجَمرِ فكيف يُساوي خالداً أو يَشينُه خَميصٌ من التقوى بَطين من الخَمر وقال الفرِزدق أيضاً في خالد القَسريّ: سلوا خالداً لا قدّس اللهّ خالداً متى مَلكت قَسْرٌ قريشاً تدينُها أقبلَ رسول الله أو بعدَ عَهده فتلك قريش قد أغثَّ سَمينها رَجَوْنا هُداه لا هَدى اللّه قلبَه وما أمه بالأمِّ يُهْدَى جَنينها فلم يزل خالد محبوساً بمكة حتى حَج سليمان وكلمه فيه المُفضّلُ بن المهلَّب. فقال سليمان: لاطت بك الرحم أبا عثمان إنَ خالداً جَرعني غيظاً. قال: يا أمير المؤمنين هبني ما كان من ذنبه. قال: قد فعلتُ ولا بد أن يَمشي إلى الشام راجلًا. فمشى خالدٌ إلى الشام راجلًا. وقال الفرزدق يمدحُ سليمان ابن عبد الملك.
سُليمان غَيّث المُمْحِلين ومَن به عن البائس المِسْكين حلَتْ سَلاسِلُه وما قام من بَعد النبيّ محمدٍ وعُثْمانَ فوق الأرض راعٍ يماثلُه جعلت مكان الجَوْر في الأرض مثلَه من العَدْل إذ صارت إليك محامله وقد عَلموا أنْ لن يَميل بك الهَوى وما قلتَ منِ شيءٍ فإنك فاعله
زياد عن مالك: إن سليمان بن عبد الملك قال يوماً لعمرَ بن العزيز: كذبتَ! قال: واللّه ما كذبتُ منذ شَدَدْتُ عليّ إزاري وإنّ في غير هذا المجلس لسَعة وقام مُغضباً فتجهّز يريد مصر. فأرسل إليه سليمان فدخل عليه فقال له: يا بن عمّي. إن المعاتبة تَشق عليّ ولكن واللهّ ما أهمّني أمرٌ قط من دِيني ودنياي إلا كنتَ أولَ من أذْكره لك.
وفاة سليمان بن عبد الملك قال رجاء بن حَيْوة: قال لي سُليمان: إلى من تَرى أن أعهد فقلتُ: إلى عمر بن عبد العزيز.
قالت: كيف نصنع بوصية أمير المؤِمنين بابني عاتكة مَن كان منهما حيا قلتُ: تجعل الأمرَ بعده ليزيد. قالت: صدقت. قال: فكتب عهدَه لعمر ثم ليزيد بعده. ولما ثَقُل سليمانُ قال: ائتوني بقُمُص بَني أنظر إليها. فأتي بها فنَشرها فرآها قصاراً فقال: إن بَني صِبْيَةٌ صِغَار أفلح مَن كان له كِبار فقال لَه عمر: أفلحَ مَنْ تَزَكَى. وذَكَر اسم ربّه فصَلّى.
وكان سببُ موت سليمان بن عبد الملك أنَّ نصرانياً أتاه وهو بدابق بزِنْبيل مملوء بَيضاً وآخر مَملوء تِيناً. قال: قشَروا فقَشرّوا. فجعل يأكل بَيضة وتينة حتى أتى على الزِّنبيلين. ثم أتوه بقَصْعة مملوءة مُخا بسُكر فأكله فأتخم فَمرض فمات. ولما حَجَّ سليمانُ تأذَى بحرّ مكة فقال له
عمرُ بن عبد العزيز: لو أتيتَ الطائف. فأتاها فلما كان بسَحقْ لَقِيه ابنُ أبي الزُّهير فقال: يا أميرَ المؤمنين اجعل بعض منزلك عليّ. قال: كُل مَنزلي فرمى بنفسه على الرمل. فقِيل له: يُساق إليك الوِطاء فقال: الرمل أحدث إلي وأعجبه برده فألزق بالرَّمل بطنَه. قال: فأتي إليه بخَمْس رُمَّانات فأكلها ثم قال: أعندكم غيرُ هذه فجعلوا يأتونه بخَمْس بعد خَمس حتى أكل سَبْعين رُمَّانة. ثم أتوْه بجَدْي وستْ دجاجات فأكلهن. وأتوه بزَبيب من زَبيب الطائف فنُثر بين يديه فأكل عامَّته ونَعس. فلما انتبه أتَوْه بالغداء فأكل كما أكل الناس. فأقام يومَه ومن غد قال لعمر: أرانا قد أضرْرنا بالقوم. وقال لابن أبي الزُّهير: اتْبعني إلى مكة فلم يَفعل. فقالوا له: لو أتيتَه فقال: أقول ماذا: أعْطِني ثمن قِراي الذي قريتُكه! العُتبي عن أبيه عن الشَّمردل وكيل آل عمرو بن العاص قال: لما قَدِمٍ سليمان بن عبد الملك الطائفَ دَخل هو وعمر بن عبد العزيز وأيوب ابنه بستانا لعمرو. قال: فجال في البستان ساعةً ثم قال: ناهيك بمالِكم هذا مالاً! ثم ألْقى صدرَه على غُصن وقال: ويلك يا شَمَرْدل! ما عندك شيء تُطعمني قلت: بلى والله عندي جَدْي كانت تَغدو عليه بقرة وتروح أخرى. قال: عجٌل به ويحك! فأتيتُه بن كأنه عُكٌة سَمْن فأكله وما دعا عُمَرَ ولا ابنه حتى إذا بَقي الفَخِذ قال: هلم أبا حَفْص. قال: أنا صائم
فأتى عليه. ثم قال: ويلك يا شَمَرْدل! ما عندك شيء تُطعمني قلت: بلى واللّه دَجاجتان هِنْديتان كأنهما رَألا النعام فأتيتُه بهما فكان يأخذ برجل الدجاجة فيُلقى عظامَها نقية حتى أتى عليهما. ثم رفع رأسَه فقال: وبلك يا شَمَرْدل! ما عندك شيء تُطعمني قلت: بلى عندي حَريرة كأنها قُراضة ذهب. قال: عَجِّل بها ويلك! فأتيتُه بعُس يَغيب فيه الرأس فجعل يَتَلَقَّمها بيده ويَشرب. فلما فرغ تجشَّأ فكأنما صاح في جُب. ثم قال: يا غلام أفرغِتَ من غَدائي قال نعم. قال: وما هو قال: ثمانون قِدْراً. قال: ائتني بها قِدْراً قدراً. قال: فأكثرُ ما أكل مِن كل قدر ثلاث لُقم وأقل ما أكل لقمة. ثم مسح يده واستلقى على فِراشه ثم أذن للناس ووُضعت الخِوانات وقَعد يأكل فما أنكرتُ شيئاً من أكْله.
خلافة عمر بن عبد العزيز المدائني قال: هو عمرُ بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم وكُنيته أبو حَفْص. وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. وولي الخلافةَ يوم الجُمعة لعشر خَلْون من صَفر سنة تسع وتسعين. ومات يومَ الجمعة لستٍّ بقين من رَجب بدَيْرِ سِمْعان من أرض دِمَشق سنة إحدى ومائة وصَلّى عليه يزيدُ بن عبد الملك. علي بن زيد قال: سمعتُ عمرَ بن عبد العزيز يقوله: تمَت حُجّة اللّه على ابن الأربعين. ومات لها. وكان على شرطته يزيدُ بن بَشير الكِنانيّ. وعلى حرسه عمرو بن المُهاجر ويقال! أبو العباس الهِلالي. وكان كاتبَه على الرسائل ابنُ أبي رُقَيَّة وكاتبه أيضاً إسماعيل بن أبي حَكيم. وعلى خاتَم الخلافة نُعيم ابن أبي سَلامة. وعلى الخراج والجُند صالحُ بن أبي جُبير. وعلى إذْنه أبو عُبيدة الأسود مولاه. يعقوب بن داود الثَّقفي عن أشياخ من ثَقيف قال: قُرىء عهدُ عُمر بالخلافة وعُمر من ناحية فقام رجلٌ من ثقيف يقال له: سالم من أخوال عمر فأخذ بضَبْعيه فأقامه. فمال عمر: أما والله ما الله أردتَ بهذا ولن تُصيب بها مني ديناً. أبو بِشر الخُراساني قال: خَطب عمرُ بن عبد العزيز الناسَ حين استُخلف فقال: أيها الناس والله ما سألتُ الله هذا الأمرَ قَط في سر ولا علانية فمن كان كارهاً لشيء
مما وليتُه فالآن. فقال سعيدُ بن عبد الملك: ذلك أسرعُ فيما تَكره أتريد أن نَخْتَلف ويضرب بعضُنا بعضاً قال رجل: سبحان اللّه! وليها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولم يقولوا هذا ويقوله عُمر!
|